اذا غضضنا الطرف للحظة عن الدوافع والاهداف الحقيقية فان تركيا النظام الرسمي مسنودا بملايين الجماهير التركية المشاركة في مظاهرات الغضب والاحتجاج والادانة ضد حرب الابادة والمحرقة الاسرائيلية الهمجية في قطاع غزة، تركيا النظام والشعب كان من ابرز الناشطين ضد ولوقف هذه الحرب الدموية التدميرية والتعبير عن التضامن السياسي والانساني مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ضحية هذه الحرب الوحشية. وعندما اوقفت حرب المذابح والتدمير التي حولت القطاع الى ارض محروقة اكدنا كما اكد جميع احرار العالم ان دم الابرياء من ضحايا سفاح الطفولة لن يذهب هدرا وسيطارد ويلاحق المجرمين الاسرائيليين في كل مكان في العالم حتى ينالوا العقاب الذي يسحقونه كمجرمي حرب اعداء الانسانية والشعب العربي الفلسطيني، الدم الفلسطيني المسفوك لاحق مجرمي الحرب الاسرائيليين الى داخل "منتدى دافوس الاقتصادي العالمي" الذي بدأ اعماله يوم الاربعاء من الاسبوع الماضي وبمشاركة اكثر من اربعين رئيس دولة وحكومة والامين العام للجامعة العربية والسكرتير العام للامم المتحدة وطواغيت العولمة الرأسمالية من ارباب الرأسمال الكبير والشركات الاحتكارية عابرة القارات ومتعددة الجنسيات ومختصين في شؤون المال والاقتصاد من منظرين ومديرين ومخططين. ورغم ان القضية الاساسية المطروحة على جدول اعمال هذا المنتدى العالمي في منتجع دافوس السويسري هي كيفية مواجهة الاسقاطات الكارثية لاعصار الازمة المالية الاقتصادية الداشعة هرولة، رغم الاهمية الكبيرة لهذه القضية التي مدلولها السياسي مصير وطابع تطور النظام الرأسمالي العالمي بعد فشل العولمة الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، رغم هذه الاهمية فانه لم يكن بالامكان القفز وتجاهل الجريمة التي ارتكبت بحق الانسانية والشعب العربي الفلسطيني. ومن رفع قضية المحرقة الاسرائيلية في قطاع غزة في اليوم الثاني من عمل المنتدى – يوم الخميس – هو الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي تحدث بحرقة عن جرائم المحتل الاسرائيلي في قطاع غزة، واصفا الغزاة بالقتلة، بسفاحي الطفولة وبالمجرمين ضد المدنيين العزل من السلاح، كما طالب اردوغان الادارة الامريكية الجدية باعادة النظر في سياستها المنحازة الى جانب اسرائيل، وطالب المجتمع الدولي باغاثة الشعب العربي الفلسطيني المنكوب وانصافه بانهاء الحصار والاحتلال الاسرائيلي وتحقيق وانجاز حقوقه الوطنية الشرعية بالحرية والاستقلال الوطني.
وبعد ان انهى اردوغان كلمته اصر رئيس دولة اسرائيل، الثعلب الصهيوني العجوز والفنان والممثل البارز في الاخراج المسرحي التضليلي المخادع، اصر شمعون بيرس على الحديث واعطت له الكلمة، ومن لا يملك لا الحقيقة ولا المنطق يلجأ الى الكذب والى الزعبرة والصراخ للتغطية على هلامية موقفه. ومن استمع الى فصله المسرحي في دافوس يخرج بانطباع وكأن الضحية ليست غزة بل اسرائيل وان المجرم ليس الاحتلال وما يفرضه من حصار بري وجوي وبحري على مليون ونصف مليون فلسطيني يعانون من المجاعة والامراض والبطالة والفقر في معسكر اعتقال جماعي مغلق، بل المجرم هو "الارهاب الفلسطيني" – حماس وباقي الفصائل الفلسطينية التي تطلق القذائف والصواريخ على المدنيين الاسرائيليين فتصادر امن واستقرار الناس وتزرع الهلع والخوف والمعاناة لدى اطفال ونساء ومسني مستوطنات الجنوب الاسرائيلي، وبوقاحة وجه شمعون بيرس لاردوغان سؤالا، ماذا كنت تفعل لو ضربوا اسطنبول بالصواريخ؟ لم يستطع اردوغان تحمل اكاذيب وديماغوغية شمعون بيرس فطلب ثانية حق الكلام، وشن هجوما عنيفا مفندا اباطيل بيرس، وان الصواريخ الفلسطيني بدائية الصنع ولم تقتل احدا حتى ولا دجاجة. عسكريوكم كانوا يفرحون بالدخول الى غزة على ظهر الدبابات لهدم البيوت وقتل المدنيين وسفك دماء الاطفال، انتم قتلة يا شمعون بيرس، لا تقتل احدى الوصايا العشر، وانتم قتلتم! وعريف المنتدى لم يعطه المجال ليكمل حديثه فاحتج اروغان وغادر منتدى دافوس ولكنه نجح قبل ترك المنصة ان يوجه انتقادا لاذعا لمن صفق لشمعون بيرس بعد انهاء كلمته ومن بينهم بعض المسؤولين العرب المدجنين امريكيا والامين العام للامم المتحدة والامين العام للجامعة العربية عمرو موسى.
واردوغان والنظام التركي والشعب التركي قد ادخلتهم اسرائيل الرسمية ووسائل اعلامها المجندة والمتجندة في دعم سياسة العدوان الاسرائيلية في القائمة السوداء لاعداء اسرائيل والصهيونية اللا سامية.
ان السؤال الذي يطرح نفسه هل غير النظام التركي موقفه وانتقل من الارتباط بعلاقات استراتيجية وسياسية واقتصادية وطيدة مع اسرائيل تصل الى درجة التحالف والتنسيق والتعاون العسكري متعدد الجوانب الى برودة في العلاقات والى انتقاد وادانة والتصدي لحرب اسرائيل العدوانية على غزة والى ذريعة تضع اكثر من سؤال حوال طابع العلاقات المستقبلية التركية – الاسرائيلية. وتركيا العضو في الحلف الاطلسي العدواني الذي تقوده الامبريالية الامريكية والتي تقام على اراضيها قواعد عسكرية كبيرة لمنظومات الصواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، فتركيا هذه هل اصبحت ابنا عاقا في اطار استراتيجية التحالف العدواني الامبريالي الامريكي – الاسرائيلي ومتمردا على مواقف حلفائها القدامى؟
برأينا توجد عدة عوامل كان لها تأثيرها على المواقف السياسية للنظام التركي، اهمها ما يلي: *
اولا: بداية تحولات ملحوظة منذ اواسط التسعينيات، في قوى الصراع داخل تركيا، بلغت اوجها في السنوات الاولى من القرن الواحد والعشرين، وخاصة منذ سنة الفين وثلاثة، هذا لاصراع الذي اتخذ عدة اشكال، بين العسكريين والمدنيين في ادارة الدولة، بين العلمانيين والمتدينين حول طابع الدولة. فالحقيقة هي ان الجيش التركي بطواقم قادته قوة مدجنة امريكيا سياسيا وعسكريا ويؤلف مع الحزب القومي الاتاتوركي الوكر الرجعي المتحالف استراتيجيا في اطار الاحلاف العسكرية الامريكية ومع اسرائيل، ويهيمن على السلطة تحت شعارات التضليل النمطية الامريكية – العلمانية والحرية والدمقراطية، مع ان هذا النظام مارس ويمارس سياسة القهر القومي والتمييز العنصري والاضطهاد القومي ضد الاكراد وضد الشيوعيين حيث يحظر نشاط الحزب الشيوعي ويطارد ويعتقل رفاقه، ومنذ اواسط التسعينيات بدا يبرز ظهور ونشاط تنظيمات الاسلام السياسي ومنها حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الاسلامية الذي بدأ ينافس على السلطة حيث اصبح حزبا مركزيا في السلطة في العام الفين وثلاثة وعلى اكثرية ساحقة في انتخابات الفين وسبعة، ازدادت شعبية حزب العدالة والتنمية على حساب انخفاض قوة حزب اتاتورك القومي، وبقي الجيش وكرا امريكيا مدجنا، وحاول حزب اتاتورك بمساعدة الجيش مصادرة الشرعية السياسية لحكم حزب العدالة بقيادة جول واردوغان بادعاء ان الحزب العدالة يعمل على القضاء على الطابع العلماني للنظام في تركيا واستبداله بالطابع الاصولي الديني، والحقيقة ان حزب العدالة اراد بسياسته تخفيف وطأة التبعية للهيمنة الامريكية وللعلاقة الاستراتيجية التحالفية مع اسرائيل وتحسين العلاقات مع البلدان العربية والاسلامية.
* ثانيا: رغم ان تركيا عضوا في الحلف الاطلسي الا ان مجموعة دول الاتحاد الاوروبي تعارض وتماطل في قبول تركيا عضوا في الاتحاد الاوروبي. وتلجأ الى تبرير مماطلتها ومعارضتها الى حجج واهية مثل ان مقاييس الدمقراطية وحقوق الانسان "السائدة" في الاتحاد الاوروبي لا تراعي في تركيا ولم تلجأ الى اجراءات اصلاحية جذرية تؤهلها لدخول عضوية الاتحاد الاوروبي، وهنالك من يدعي ان دافع المعارض والرفض يعود الى موقف اوروبي عنصري لا يريد دولة اسلامية في اتحاد اوروبي مسيحي!
* ثالثا: في ظل بلورة المحاور الاقليمية للهيمنة على مناطق نفوذ وابتزاز مصالح من بلدان وشعوب الشرق الاوسط محور البلدان العربية "المعتدلة" بقيادة امريكا واسرائيل ومحور البلدان والانظمة والمنظمات "الممانعة" والمناهضة للهيمنة الامريكية الاسرائيلية بقيادة ايران وسوريا. وتركيا لها علاقاتها التاريخية مع بلدان المنطقة، وانطلاقا من خدمة مصالحها لم ترض في نفسها ان تكون على رصيف الاحداث في المنطقة وان لا يكون لها نفوذها ودورها المؤثر في المنطقة، فحسنت علاقاتها مع سوريا ومع ايران ومع العديد من البلدان العربية. وتركيا ارادت ان تعود بقوة للتأثير في الشرق الاوسط وان تكون بخير وتكسب رضى ابو العريس وام العروس، ان تنافسه من جهة النفوذ الايراني في المنطقة بالمزايدة في دعم القضايا الوطنية العربية والفلسطينية، ولهذا اخذت دور الوسيط في المحادثات غير المباشرة بين اسرائيل وسوريا ودورها الناشط بمبادراتها لوقف الحرب على غزة وادانة جرائم المعتدين الاسرائيليين، وحتى ان اردوغان طالب في منتدى دافوس ادارة اوباما باعادة النظر في تقييمها لمنظمات الارهاب وهو يقصد حزب الله وحماس ومختلف فصائل المقاومة الوطنية. فالنظام التركي بنشاطه المتعدد يستهدف خدمة مصالحه، فعلاقاته الجيدة مع مختلف اطراف الصراع الاقليمي تعكس ان له دورا هاما لا يمكن تجاهله، دور ونفوذ يمكن استثمارهما كوسيلة ضغط لتسهيل عملية دخول تركيا عضوية الاتحاد الاوروبي ولاشغال مكان افضل في الاستراتيجية الكونية للادارة الامريكية الجديدة.
اما الرد الاسرائيلي على موقف اردوغان والنظام التركي فجاء بشكل تهديد مبطن مدلوله ان تركيا ستخسر من هذا الموقف المعادي للسياسة الاسرائيلية وتخسر اقتصاديا وسياحيا، ستخسر في الموقف من قضايا الاكراد والارمن، من قضية الاحتلال التركي لجزء من اراضي قبرص، كما ستخسر في مجال العلاقة مع امريكا واوروبا، بمعنى "خليها مستورة يا تركيا" فسمور اخو حمور، نحن وانتم مثل بعض نمارس احتلال اراضي الغير ونضطهد ونجرم بحق الاقلية في بلادنا ونخدم نفس السيد الامريكي، ولكن الشعب التركي بضغطه الجماهيري المبارك على نظامه اثبت ان بقاء "الحال من المحال"، يا اسرائيل وجميع انظمة الاجرام والقهر والتمييز في كل مكان.