في الحلقة السابقة من سلسلة هذه المقالات التي تتناول موضوع التحديات المستقبلية التي تواجه السلطات المحلية العربية, كنت قد تعرضت لقضية النقص المزمن في المدخولات الذاتية للسلطات المحلية العربية من ضريبة الأرنونا على المصالح التجارية والصناعية والذي يؤدي إلى عجز متراكم في ميزانياتها, خاصة وأن هبة الموازنة التي تقدمها وزارة الداخلية لا تكفي لسدّ الفجوات بين مدخولات السلطات المحلية العربية واليهودية. وخلصنا إلى الاستنتاج بأن على السلطات المحلية العربية والفعاليات السياسية ذات الصلة خوض نضال منهجي لمعالجة أسباب المشكلة وعدم الاكتفاء بتطبيب نتائجها الوخيمة.
وفي هذه الحلقة سأتعرض لقضية الأزمة الحادة التي تواجهها البلدات العربية ومواطنيها في مجالات التنظيم والبناء, وبالتحديد ضائقة مسطحات البناء المقلصة نتيجة سياسة الخنق المتعمد التي تنتهجها لجان التنظيم. وتشكل هذه السياسة استمرارا للنهج العنصري الذي ساد طوال العقود الماضية والذي أدّى إلى الاستيلاء على غالبية الأراضي العربية ومحاولة تهويدها بالمصادرة المباشرة وغير المباشرة, كما سيأتي تفصيله لاحقا.
ويمكن تلخيص أبرز تجليات وتداعيات هذه السياسات المتعلقة بالأراضي والتخطيط بما يلي:
1. استمرار السلطة في إنكار حقّ العرب في القرى غير المعترف بها في النقب بملكية أرض آبائهم وأجدادهم وحقّ التصرف بها والعيش عليها بأمان وطمأنينة, إذ تزيد مساحة الأراضي التي تنازع الدولة أصحابها على ملكيتها على 650 ألف دونم, ويربو عدد المباني العربية غير المرخصة في النقب على 50 ألف مبنى.
2. يتجاوز عدد البيوت غير المرخصة في البلدات العربية المعترف بها وفي القرى غير المعترف بها والواقعة في باقي أرجاء البلاد (أي ما عدا النقب والقدس), وفي الأحياء العربية في المدن المختلطة (اللد والرملة على وجه الخصوص) 15 ألف بيت. ويعيش أصحاب هذه البيوت في قلق دائم على مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم وممتلكاتهم حيث تلاحقهم السلطات قضائيا وتفرض عليهم عقوبة السجن الفعلي والغرامات المالية الباهظة التي يقتطعون من قوت عائلاتهم حتى يسددوها. وكل هذا ناهيك عن أوامر الهدم الإدارية والقضائية التي لا تتورع لجان التنظيم والمحاكم عن تحريرها دون أن يرمش لها جفن.
3. إرتفاع أسعار الأراضي الصالحة للبناء في البلدات العربية إلى درجة لا تطاق نظرا لندرتها وانكماش مساحتها. وتسهم دائرة أراضي إسرائيل في تأجيج أسعار أراضي البناء بعرضها للبيع عددا محدودا جدا من القسائم يكفي في أحسن الأحوال لإقامة ألف وحدة سكنية سنويا, في حين أن الحاجة تصل في البلدات العربية إلى ما بين 8-10 آلاف وحدة سكنية سنويا. وجراء كل ذلك أصبحت فرصة العائلات العربية, والشابة منها خاصة, بإقامة بيت معقول للسكن غير سانحة وليست في متناول اليد.
4. أصبحت هجرة العائلات العربية المقتدرة للإقامة في المدن اليهودية مثل "كرميئيل" و-"نتسيرت عيليت" ظاهرة مألوفة على الرغم من التداعيات السلبية التي تنطوي عليها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وبالرغم من أن البعض يجد في هذه الظاهرة عوامل إيجابية, إلا أنها تبقى تعكس واقعا مريرا يفوق في ظله ثمن بيت سكني في حي مترف في مدينة "كرميئيل" ثمن بيت متواضع في البلدات العربية التي أقيمت المدينة على أراضيها المصادرة.
ونظرا للتغطية والمتابعة التي تحظى بها قضية القرى العربية غير المعترف بها في النقب على المستويات السياسية والقانونية وفي نطاق عمل الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني, فسأتركز فيما يلي باستعراض الواقع والمستجدات التخطيطية في البلدات العربية المعترف بها, وكيفية التعامل معها, خاصة ونحن بصدد استعراض التحديات المطروحة أمام رؤساء وإدارات السلطات المحلية المنتخبة مؤخرا.
وكما سبق الذكر, فإن المشكلة الأساسية التي تواجه السلطات المحلية العربية وتلقي بظلال كثيفة ومكفهرة عليها وعلى مواطنيها هي انكماش مسطحات البناء المصادق عليها في مقابل التزايد السكاني وتعاظم الطلب على أراضي البناء والتطوير. ويعود السبب لنشوء المشكلة هو تجاهل السلطات الرسمية, ممثلة بلجان التنظيم المحلية واللوائية, لاحتياجات البلدات العربية على مر السنين لتوسيع مسطحات البناء فيها بشكل منتظم وفي الوقت الملائم, أي قبل تراكم الطلب على الأراضي من جهة, وشحة الاحتياطي الذي تم إعداده من الأراضي الصالحة للبناء بواسطة المخططات الهيكلية.
وعلى ذكر المخططات الهيكلية فمن المهم التأكيد على أن بعضها, وخاصة تلك التي تتولى إعدادها وزارة الداخلية مباشرة أو الجهات التي تقوم مقامها, لا يفي بالحاجات الحقيقية والضرورية للبلدات وللسكان, ويتضمن فرض تقييدات ومعيقات للبناء والتطوير عوضا عن منح التسهيلات والحوافز, ويستغرق وقتا طويلا لإعدادها وعرضها على لجان التنظيم المختصة وصولا إلى المصادقة عليها والبدء بتنفيذها.
ولتوضيح الصورة حول المخططات الهيكلية نذكر أن وزارة الداخلية باشرت منذ عام 2001 بإعداد 57 مخطط هيكلي في 63 بلدة عربية تقع ضمن 31 سلطة محلية ضمن مشروع خاص أطلقت عليه اسم "التخطيط الهيكلي في الوسط غير اليهودي". وعلى الرغم من مرور حوالي 7 أعوام على بداية المشروع, فقد تمت المصادقة على 14 مخطط هيكلي فقط لغاية الآن (أغلبها تعود لبلدات عربية صغيرة). ويعود السبب في التأخير بالمصادقة على باقي المخططات (أي 43 مخططا) إلى شحة الميزانيات التي ترصدها وزارة الداخلية وغيرها من الجهات الرسمية المشاركة في المشروع (رغم أن الميزانية المطلوبة للمشروع برمته تبلغ ملايين معدودة من الشواقل). كما وتساهم لجان التنظيم اللوائية في إفشال المشروع بواسطة التلكؤ في بحث المخططات ووضع العراقيل أمام المصادقة عليها. والأنكى من كل ذلك أن بعض المخططات التي تتم المصادقة عليها لا تسهم في حل المشاكل التخطيطية التي تراكمت خلال السنوات الماضية. فبعضها لا يصلح لاستصدار رخص بناء للبيوت القائمة التي بنيت بدون ترخيص أو لبيوت جديدة يرغب السكان في بنائها. وبعضها الآخر يحتاج إلى إعداد مخططات تفصيلية إضافية حتى يتمكن السكان من استصدار رخص بناء وفقها.
ومن جهة أخرى فإن غالبية السلطات المحلية المعنية وسكانها لا تنظر بعين الرضى إلى هذه المخططات الهيكلية, وغالبا ما يتم استبعاد هذه السلطات وممثلي السكان عن المشاركة في عملية التخطيط وتحديد احتياجات البلدات المستقبلية. وتبرز المشكلة أكثر عندما تكون السلطة المحلية في البلدة المعنية مشلولة أو معينة من قبل وزارة الداخلية, حيث ترفض الجهات الرسمية ولجان التنظيم التعامل مع اللجان الشعبية وممثلي السكان الذين يتطوعون لمتابعة المخطط الهيكلي لبلدهم (كما هو الحال في الطيبة والطيرة وباقة الغربية وجت وغيرها).
وأكثر ما يلفت النظر في ماهية المخططات الهيكلية ووتيرة بحثها والمصادقة عليها ما يلي:
1. انكماش مساحات الأراضي الصالحة للبناء والتطوير بالنسبة للتزايد السكاني في البلدات العربية: فإذا قارنا مساحة مسطح البناء للفرد الواحد في كل البلدات العربية بين عام 2003 وعام 2007 نجد أنها قد تقلصت بنسبة 6.6%, أي بمعدل يصل إلى حوالي 2% سنويا, في حين أن المنطق يحتم زيادة مساحة المسطحات الحالية التي تعاني من الكثافة العالية والازدحام الشديد.
2. الفترة الزمنية الطويلة جدا التي تمر منذ تسليم المخططات الهيكلية للجان التنظيم اللوائية لغاية المصادقة عليها (ناهيك عن الفترة الطويلة التي تستغرقها عملية إعداد المخطط): فقد أظهر مسح لكل المخططات الهيكلية للبلدات العربية التي تمت المصادقة عليها بين الأعوام 1990-2007 بأن معدل "عمر المخطط" – أي الفترة الزمنية منذ تسليم المخطط للجنة التنظيم ولغاية المصادقة عليه – يصل إلى عشرة أعوام !
وملخص القول أن تعامل السلطات الرسمية مع قضايا التنظيم والبناء في البلدات العربية يتسم بالاستخفاف باحتياجات هذه البلدات لتوسيع مسطحات البناء فيها من أجل سدّ رمق الأجيال الجديدة للأراضي الصالحة للبناء والتعمير (بما في ذلك إقامة المناطق الصناعية والتجارية والأبنية العامة), ومن أجل حل ضائقة الآلاف المؤلفة من العائلات التي أصبحت المخططات الهيكلية بالنسبة لها كابوسا يؤرق منامها ويحرمها الشعور بالأمان والثقة بالمستقبل. ولا نبالغ إذا قلنا أن بلدة عربية واحدة لم تنج من هذا التعامل التعسفي الذي أدّى إلى الشعور السائد بأن قضايا الأرض والمسكن أصبحت شغل الناس الشاغل وهمها الأول.
ومن هنا نرى أن معالجة هذه الأزمة المزمنة تحتم الشروع في نضال جماعي يشمل كافة السلطات المحلية العربية في البلاد, واللجان الشعبية المختصة بهذا المجال (على شاكلة اللجان التي تنشط في الطيبة والطيرة وقلنسوة ومنطقة وادي عارة وباقة الغربية وجت وغيرها). والمركبات الرئيسية التي يجب أن يتضمنها هذا المشروع النضالي هي: إبراز دور السياسات السلطوية التي أدّت إلى الضائقة الحالية, ووضع مخطط قطري شامل (أو مجموعة مخططات لوائية) يتضمن حلولا مهنية للمشاكل المستعصية التي تواجهها كل بلدة وبلدة, وممارسة الضغوط السياسية والقانونية والشعبية كي تتبنى الحكومة هذه المبادرة وتتحمل مسؤولياتها كاملة تجاه البلدات العربية وسكانها.