news-details

أنا أرفض أن "أتعقّل"* | أيمن عودة

*لا أستطيع التعقّل من إمكانية إرساء السلام. بل أبعد من ذلك بكثير. حتى بعد 7 أكتوبر، لم تتبدل قناعتي بأن حل الدولتين هو ليس الحل الذي يقوم على القاعدة الأقوى، عدلاً وإنسانيةً، فحسب، وإنما هو الحل الواقعيّ الوحيد أيضاً. أعود هنا لأذكّر أصدقائي، اليهود والفلسطينيين على حد سواء، بأنّ كل من يعتقد بأنّ معاناة طفل غزّيّ لا تختلف، ولا حتى بمقدار جْرامٍ واحد، عن معاناة طفل في كيبوتس في منطقة "غلا غزة"، مُلزَمُ بالصراخ في زاوية كل شارع: دولتان، هو الحل الوحيد. لم يعد لدينا وقتٌ لنضيّعه*

 

في الشهر الأخير، أسمع غير مرة عن أشخاص "تعقّلوا". بعد المذبحة المروّعة ضد سكان جنوب البلاد والحرب التي بدأت على إثرها، ينبغي أن نحمل في اليد آلة حاسبة والتمتع بقلب من حديد لنحسب من غير دموع عدد الضحايا، الفقدان الرهيب في حياة البشر، الآمال والأحلام بالعبرية والعربية التي تبددت وتلاشت في لحظة واحدة. من الصعب، بل من الصعب جداً، غضّ النظر عن الدعوات المتزايدة التي تصدر عن أشخاص يرَوْن الآن الواقع "كما هو"، و"يفهمون ـ أخيراً ـ من هم "العرب" الذين يعيشون هنا في المنطقة". ويوضحون ـ بعضهم بصوت متردد حتى الآن ـ أن كل هذه الأحاديث عن "السلام" وعن "العدل" ربما كانت ملائمة للأغيار في أوروبا، لكن ليس لنا، نحن اليهود، الذين يعيشون حياتهم في الشرق الأوسط.

هؤلاء "المتعقّلون" يعلمون الآن أن الفكرة التي نكافح من أجلها منذ سنوات عديدة لم تعد واقعية. فقد "تعقّلوا" من الوهم وها هم يعلنون الآن: حل الدولتين ـ سيء، ورجاءً، من فضلكم، اعفونا في أيام الحرب من أي نقاش حول المستقبل. سوف نتناقش، فيما بعد، حول "اليوم التالي". في هذه الأثناء، غزة تحترق ولتذهب كلمة "السلام" هذه إلى الجحيم.

لا أستطيع التعقّل من إمكانية إرساء السلام. بل أبعد من ذلك بكثير. حتى بعد 7 أكتوبر، لم تتبدل قناعتي بأن حل الدولتين هو ليس الحل الذي يقوم على القاعدة الأقوى، عدلاً وإنسانيةً، فحسب، وإنما هو الحل الواقعيّ الوحيد أيضاً. أعود هنا لأذكّر أصدقائي، اليهود والفلسطينيين على حد سواء، بأنّ كل من يعتقد بأنّ معاناة طفل غزّيّ لا تختلف، ولا حتى بمقدار جْرامٍ واحد، عن معاناة طفل في كيبوتس في منطقة "غلا غزة"، مُلزَمُ بالصراخ في زاوية كل شارع: دولتان، هو الحل الوحيد. لم يعد لدينا وقتٌ لنضيّعه.

لأصدقائي اليهود، يهمني أن أشير إلى أنّ مجموعة "المتعقّلين" اليهود من الشهر الأخير تنضم إلى مجموعة كبيرة من "المتعقّلين" الفلسطينيين (في إسرائيل وخارجها) تدّعي، منذ سنوات عديدة، أن الاحتلال لن ينتهي أبداً وأن تركيبة الحكومة الحالية وسياستها تشكلان نموذجاً آخر عن سياسة إدارة الصراع المشتركة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. نعم، حقاً، هم أيضاً يدعونني إلى "التعقّل" والاستفاقة من أوهامي بشأن انتهاء الاحتلال وتقسيم البلاد. حقاً، كيف بالإمكان عدم "التعقّل" والاستفاقة من وهم الحياة المشتركة الممكنة، بينما يهجس وزير في الحكومة في إمكانية إلقاء قنبلة نووية على أبناء شعبي في غزة؟

لكنني أرفض التعقّل من حلم الحياة المشتركة. لا أتعقّل رغم أنني قرأتُ في كتاب بيني موريس، "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947- 1949"، كيف هجّروا بالقوة مئات الآلاف من أبناء شعبي إبّان النكبة؛ لا أتعقّل حتى حينما أحدّق في صور حيفا، مدينتي، بعد 1948، وأرى كيف نهبوا ودمّروا كلياً بيوت سكانها العرب كي يمنعوا عودتهم إليها (اقرأوا عن ذلك في كتاب المؤرخ آدم راز، "نهب الممتلكات العربية"). لا أتعقّل حتى حينما أقرأ كيف دمّروا وأحرقوا الحقول والكروم لمنع عودة الفلسطينيين إلى قراهم. وأرفض التعقّل حتى بعد زيارات إلى أماكن ارتُكبت فيها جرائم حرب ومذاح ضد الفلسطينيين على امتداد السنين الماضية.

رفضتُ التعقّل حتى حين شاركتُ في فعاليات إحياء الذكرى السنوية الأخيرة، في 29 تشرين الأول، لمجزرة كفرقاسم، وحين قرأتُ في كتاب آدم راز، "مجزرة كفرقاسم: السيرة السياسية"، تفاصيل ما كان يختبئ وراء المجزرة. وأرفض التعقّل عندما أتحدث مع لاجئين هُجِّروا خلال حرب 1967 من بيوت سكنوا فيها أجيالاً وراء أجيال ثم مُنعوا من العودة إليها؛ وما زلتُ أرفض التعقّل عندما ألتقي ضحايا الانتفاضة الأولى، وكذلك الثانية، اللتين خلّفتا آلاف الضحايا.

أرفض التعقّل رغم ما اطّلعتُ عليه بشأن محاولات تسميم آبار المياه في قرى عربية (أنظروا دراسة بيني موريس وبنيامين كيدار، التي نُشرت العام الماضي)، اغتصاب فلسطينيات (مثل "قضية نيريم")، سياسة إطلاق النار التي لا يُحاسَب عليها إلا القلائل، وسياسة عدم محاكمة جنود على جرائم حرب عديدة ارتُكِبت. أرفض أن أتعقّل حين أرى ممارسات حكومة إسرائيل في المناطق المحتلة: كيف تنهب الأراضي والموارد الطبيعية، وكيف تنكّل بالفلسطينيين الذين لا يملكون ما يدفعون به عن أنفسهم، وكيف تلقي الحبل على غاربه للمستوطنين ليفعلوا كل ما يخطر في بالهم والقائمة، للأسف، طويلة.

لم أتعقّل أيضاً حيال الحصار المستمر منذ سنوات عديدة على قطاع غزة، حتى بعد أربعة حروب قُتل فيها آلاف الغزيّين وحتى بعد أن سمعت أن الأمم المتحدة أعلنت أن غزة لن تكون صالحة للسكن حتى سنة 2020 بسبب انعدام الشروط الإنسانية الكافية. بعد ثلاث سنوات من هذا، ما زلتُ أرفض التعقّل.

ليس أني لا "أتعقّل" فقط، بل لا أقارن أيضاً. ليست ثمة أية جدوى من المقارنة بين ظُلم وظُلم. وذلك لأن أي ثمن يُدفَع بالدماء، سواء كانت فلسطينية أم إسرائيلية، يتراكم ويُضاف ويزيد من الثمن المشترك الذي يدفعه الشعبان لآلهة الحرب. الألم الناجم عن مأساة عائلة من غزة دُفِنت تحت أنقاض بناية سكنها مشبوك بالألم الناجم عن مأساة عائلة شابة قُتلت في غلاف غزة. الأحلام التي تبخّرت هي الأحلام ذاتها ونحن، الفلسطينيين والإسرائيليين، الذين بقينا نحصي موتانا، نغرق في بئر الثكل دون أن يلوح الخروج من هذه البئر في الأفق.

الـ "تعقّل" يعني التنازل. التنازل عن الحلم البسيط بحياة طبيعية، لا تشكل فيها السياسة سوى جزء صغير من حياة المواطنين ولا تطغى على كل بقعة طيبة من حياتهم اليومية. حياة طبيعية، أي حياة تكون المناسبات الأهمّ فيها هي يوم الميلاد، الزفاف، حفل التخرج من المدرسة أو حفل إنهاء الدراسة للقب أكاديمي. حياة تكون فيها أيام الحداد قليلة جداً. إذا "تعقّلنا" من هذا التصور المستقبلي بشأن الحياة الطبيعية، فماذا سنقول لأولانا حين يسألون متى ستنتهي الحرب؟ متى سيعودون إلى المدارس؟ متى سيعودون للعب كرة القدم سوية مع أولاد الحارة؟ متى ستتوقف الأمهات عن البكاء؟

سبعة ملايين يهودي وسبعة ملايين فلسطيني لن يذهبوا إلى أي مكان. مصيرا الشعبين مضفوران معاً ولا خيار آخر أمامنا سوى إيجاد حل يتمكن من خلاله الشعبان من العيش هنا حياة طبيعية، جنباً إلى جنب. علينا أن نفهم أن لا طريق آخر سوى طريق السلام. هذا هو التعقّل الحقيقي.

عن هآرتس، 12 تشرين الثاني 2023

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب