هكذا لمع وانبرى شعراؤنا الشعبيون أمثال الريناوية والميعارية والأسدية وكذلك يوسف أبو الليل، يتجولون في جميع أنحاء الوطن، يحيون السهرات وحفلات الأعراس والليالي الملاح على أصوات الحدائين والزجالين، يتغنون ويتغزلون ويتنافسون فيما بينهم على حب الوطن والانتماء للأرض، والجماهير تردد وراءهم في مشاهد قل مثيلها، بهدف بث الحماس في الشارع الشعبي، وتأجيج الهوية الوطنية، وذلك في مرحلة تعتبر من أشد مراحل الطمس والتغييب والإلغاء في فترة ما بعد النكبة والضياع، إذ يعتبر حب الوطن والانتماء له، قدس الأقداس في الخصوصية الفلسطينية التي يرتكز عليها العمود الوطني والديني ومحور الإيمان لجماهير سلبت واقتلعت وأهدرت حقوقها وكرامتها الوطنية، وأصبحت في رمشة عين مسلوبة الوطن والأرض والهوية، باعتبار أن الخالق يرمز في كافه الديانات السماوية، إلى محبة الجذور والدفاع عن الأرض وصيانة الأوطان وتماسك الشعب كوحدة واحدة، غير قابلة للمساومة والتفريط، ومن يفرط بالخالق رب العباد والناس أجمعين، إنما يفرط بأرضه التي تقع عليها وفيها مكوناته الإيمانية ومقدساته التي يشملها مفهوم الوطن، ويحرسها الشعب الذي عليه حمايتها والدفاع عنها، إن لم يكن الاستبسال والاستشهاد في سبيلها.
كان وقع الكلمات والمقطوعات الغنائية، حب الوطن رأس الدين، تقع علينا نحن الشباب الناهض من براثن الانكسار والتكوين المجتمعي ونحن في عقدنا الأول، تنغرس في الأعماق كالشجرة التي ترفض الاقتلاع من موطنها، تستحوذ على مخيلتنا وساحات تفكيرنا الناشئة، إذ كنا نرددها بصوت صاخب وبجنون الحماس الملتهب. كان الهتاف يشكل صدمة لبعض "البشر" ذوي المكانة المتعاونة مع الأجهزة المخابراتية التي كانت تترصد كل شاردة وواردة في قاموس الأغاني الحماسية ذات الدلالة الوطنية لشعراء ذلك الزمان البهيج خوفًا من تسرب الوعي والثقافة الوطنية، لجماهير اقتلعت من جذورها عنوة بين عشية وضحاها، بعد أن حولها رب "العرش الجديد" إلى جماهير مشتتة مبعثرة لا سقف يحميها ولا أرض يزرعها ويفترشها، بل شردها الحاكم الجديد إلى بلاد الله الواسعة، وأطلقوا عليها عبارة لاجئين في المنفى والوطن. عبارة ما زال صداها يتردد من على منابر الأمم المتحدة في دوراتها العددية المتتالية وفي المؤتمرات والندوات الدولية، سعيًا كلاميًّا لتبرير وتبرئه ساحة الفاعل بها ولإيجاد حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينين المنتشرين على أرصفة حق العودة، مثل قرار الأمم المتحدة 194لعام 1948 والذي مضى على اتخاذه خمسة وسبعين عامًا مضت وما زال حبرًا على ورق وأصابه التهميش والنسيان . كان المتعاون مع الأجهزة إياها، يطلق عليه لقب (أبو ذيل) باعتباره متذيلًا لهذه الأجهزة السوداء، يعمل ضد أبناء شعبه المكسور الجناح ومسلوب الإرادة والحقوق، بعد أن فقد الأرض والوطن.
كان الإنسان الفلسطيني اللاجئ في وطنه، مهددًا بالطرد والنفي وقطع الأرزاق، إذا تفوة بكلمة أو عبر عن أحاسيسه وانتمائه لأرضه ووطنه، لكن هذا الفلسطيني كان وما زال صابرًا قابضًا على جمرة الحق والعودة، لا يفرط بعزته وكرامته الوطنية مهما حصل، فكيف يكون الحال في زمن بن غفير وسموتريتش ونتنياهو وفاشيي هذا الزمان. نحن الشباب كنا على معرفة ودراية، عندما نردد أهزوجة حب الوطن رأس الدين، إذ كنا نستمد القوة والروح الوطنية من الأهازيج الوطنية في الأفراح، ونقرأ إشارات ورموزًا ممن هم أكبر منا عمرًا وأعلى منا شأنًا وتجربة في التعامل، عندها نفهم أن من الضرورة إعادة المقطع أو أن الصوت غير مسموع، دلالة على الموقف والثبات مع التركيز على إعادة المقطع والقول بالهتاف ليملأ المكان، فبعد برهة من الزمن نجد انسحابات متتالية للمتعاونين والأذناب، وقد خرجوا من صف السحجة في مشهد استعراضي وانصرفوا إلى خارج الفرح الذي تحول إلى زفة لهم ولمرسليهم. كان البعض من الأذناب يهمهمون بكلمات الانزعاج والتوتر، ليواسوا بعضهم على ما حل بهم من إهانات وإحراج لمكانتهم الساقطة، كقولهم مش ممكن يكون فرح مع "أولاد زعران..فش إلهم أهل يربوهم". إن مثل هذه الشلل المتعاونة كان وما زال لا دين لها ولا تعرف معنى حب الوطن الذي يعني ملكوت الخالق وفردوس البشر على الأرض . فلو كان بالإمكان إقناع الذبابة، من أن شم واستنشاق شذا الورد، هو أفضل بكثير من شم الأوساخ والقاذورات، عندها تستطيع أن تقنع العملاء والمتعاونين أن حب الوطن أفضل وأغلى وأسمى من المال الملوث والمنفعة الشخصية.
سلام وتحية لأعز الأوطان.
إضافة تعقيب