هناك تحول عميق في الذهنية الاسرائيلية ما بعد 7 اكتوبر وليس محصورا في أقصى اليمين، وفيه انزياح ملحوظ للكهانية السياسية القائمة على كره الفلسطينيين والعرب وعلى شرعنة فكرة الطرد والتهجير من غزة ومن الضفة والقدس ومن داخل "الخط الاخضر" واعتبارهم أعداء. وتستحوذ هذه الذهنية على مساحات واسعة من التيار المركزي او يمين الوسط وكذلك على مؤسسات "المجتمع المدني" من جامعات ونقابات والقضاء ومرافق خدماتية وتشغيلية، وصناعة الراي العام والاعلام، وهي ذهنية تشكل ارضية خصبة لتصاعد متواصل لشعبية بن غفير صاحب الخطاب الاكثر شعبوية، والذي من غير المستبعد ان ينافس حزبه على الموقع الثالث او الثاني في الخارطة الحزبية.
أظهر استطلاع صحيفة معاريف 9/2/2024 منحيين في الخارطة السياسية الاسرائيلية الحزبية وتحولات في الراي العام؛ الاول هو سطوع نجم وزير الامن القومي ايتمار بن غفير وحزبه "القوة اليهودية" الكهانية الداعية للتطهير العرقي من كل فلسطين التاريخية؛ والثاني هو بداية تراجع في قوة حزب "المعسكر الرسمي" برئاسة بيني غانتس بأربعة مقاعد الى 36 وبذلك تتعزز كتلة احزاب الائتلاف الحاكم بمقعدين وتتقلص الفجوة مع مجموع احزاب المعارضة الحالية. لم تتغير النتيجة بشأن الملاءمة لرئاسة الحكومة، اذ تمنح الاستطلاعات نتنياهو نسبة 32 بالمائة مقابل نسبة 48 بالمائة لصالح غانتس بمن فيهم حوالي ربع مصوتي الليكود الذين كانوا يرون نتنياهو رافعة لحزبهم وبات عبئا. وهناك من يعتبر حزب المعسكر الرسمي بأنه فقاعة استطلاعات، وان الواقع لا يمنحه هذه القوة خاصة وان معالم الخارطة الحزبية ليست واضحة، اذ قد تشهد اصطفافات جديدة ودخول لاعبين جدد المعترك السياسي. كما هناك مؤشرات بأن جمهور أنصار حكومة أقصى اليمين بدأ "يحتل الشارع" الاسرائيلي تحت شعار التصعيد الحربي حتى "الانتصار الكبير" ومنع المساعدات الإنسانية لغزة، ويشكل وزنا مضاهيا، ان لم يكن اقوى، لجمهور حركة الاحتجاج وحراك عائلات الاسرى والمحتجزين في غزة ومطالبته بانتخابات سريعة للكنيست.
وفقا للاستطلاع المذكور فإن الليكود يتراجع بمقعد من الاسبوع الفائت الى 17 مقعدا ويتواصل انزياح داخل كتلة اليمين من الليكود لصالح حزبي بن غفير وسموتريتش، اللذين بدورهما يشهدان تمايزا في هوية كل حزب.
بعد السابع من اكتوبر ساد في الاعلام والراي العام تعاظم وزن الاتهامات الموجهة الى بن غفير وتحميله مسؤولية الاخفاق وربط ذلك بسياساته وحصريا تجاه الاسرى وتجاه القدس والمسجد الاقصى، لتنحصر قوة حزبه وفقا للاستطلاعات بأربعة مقاعد في الكنيست من أصل 120، بينما وفقا لاستطلاع معاريف الاخير فقد ضاعف قوته مرتين ونصف فيما يتأتّى معظم قوته من الانزياح ما بين مؤيدي حزب "الليكود" الحاكم نحو هذا التيار الكهاني، والذي يسعى سموتريتش الى تمييزه عن الصهونية الدينية.
في اذار مارس 2023 استهتر بن غفير بنتنياهو قائلا له "سيّدي رئيس الحكومة اذا كنت تريد التخلص منا فلنراك تفعل ذلك"، وقد افردت مواقع الصحف والاعلام الاسرائيلي عشرات العناوين بأن مصير نتنياهو ودوام حكمه منوط ببن غفير، وهذا الاخير هدد عشرات المرات بالخروج من الائتلاف الحاكم وتراجع واحيانا نجح في ابتزاز نتنياهو. يدرك بن غفير ان تصاعد قوته هو مؤشر ايجابي للغاية لكنه لا ينقذ بقاءه في الحكم في حال تغير الائتلاف الحاكم اذ أن كتلة المعارضة وفقا للاستطلاعات باتت اقوى وبفارق ملموس.
كانت التقديرات خلال تسعة أشهر من الاحتجاجات على التغييرات الدستورية بأن تيار الصهيونية الدينية والكهانية اليهودية، ليسا منشغلين حقا في التغييرات الدستورية، بل ان الحزبين يسعيان الى غايتيهما، سواء "خطة الحسم" التي بلورها سموتريتش مسنودا بفتاوى حاخامات دين يهود عقيدتهم هي التطهير العرقي للفلسطينيين في الضفة وتهويدها بعد ضمها في اطار "مملكة يهودا" التوراتية، بينما يسعى بن غفير الى اشعال الاوضاع في القدس والمسجد الاقصى المبارك وفي السجون وبين فلسطينيي48. وجاءت الحرب على غزة باعتبارها السياق الافضل لهما في السعي لبلوغ مآربهما. اما الغاية الاخرى فكانت بلوغ هذا التيار سدة الحكم، والى حينه ترسيخ وزنه السياسي كقوة حاكمة، سعيا الى التغلغل في اوساط انصار اليمين من الليكود والاحزاب الدينية (الحريدية)، لدرجة إطلاق موقع "سروجيم" التابع للصهيونية الدينية في ربيع العام 2022 على بن غفير لقب "رئيس الحكومة القادم" حين رفض تعليمات رئيس الحكومة ونظم مسيرة الى الحرم القدسي الشريف متحديا قرار الحكومة وتوصيات المؤسسة الأمنية والجيش.
في الاسابيع الاخيرة وفي أعقاب اتساع شعبيته الناتجة عن الحرب والتي باتت في تناسب طردي متسارع مع تواصلها، انقلب الخطاب الاعلامي الاسرائيلي من التعامل مع بن غفير بصفته "السلبية" وبأنه بسياساته قد ورط اسرائيل في مواضيع حساسة كالأسرى والقدس والاقصى واعتبروه في الاعلام احد مسببات هجوم حماس في السابع من أكتوبر، ليتراجع حينها وفقا للاستطلاعات الى اربعة مقاعد، ثم ليغيّر الاعلام خطابه بعد الاستطلاعات اللاحقة ويبدأ الحديث عنه بأنه يحدد موقف الحكومة واحتمالية تبوئه لرئاستها لاحقا بعد ان تسقط حكومة نتنياهو ويحكم غانتس لفترة محدودة. واعتمدت هذه القراءات التحولات في الذهنية الاسرائيلية في الاشهر الاربعة الاخيرة. فقد بات بن غفير بممارساته وبشعاراته سهلة الاستيعاب هو الاقرب الى الشارع اليميني وحتى الديني اليهودي. وقد شكلت عملية اقامة مئات "وحدات الاستنفار" في معظم البلدات الاسرائيلية وتوفير الاسلحة والتدريب لها، وكذلك قيادة الحملة لمنع ادخال المساعدات الانسانية الى غزة واغلاق معبر كرم ابو سالم، ومشروع اعادة استيطان غزة، وتهجماته على قيادة اركان الجيش وعلى حراك عائلات الرهائن الاسرى الاسرائيليين في غزة، وحسمه في مسألة تفضيل مواصلة الحرب حتى الانتصار على وقفها الى حين استعادة المحتجزين، وفي المقابل تهجماته السياسية غانتس في الكابنيت والسعي لنزع شرعيته باعتباره ممثل "القناعات القديمة ما قبل 7 اكتوبر"، وتصعيدا تجاه نتنياهو وبلوغا لتهجماته على الرئيس الامريكي بايدن، كلها أكسبته تأييدا شعبيا غير مسبوق، وكذلك قوة تأثير لم يكن يتمتع بها من قبل في الحكومة الاسرائيلية ليصبح وفقا لتقديرات عدة، الوزير الاكثر تأثيرا فيها والصوت الاكثر دموية وتطرفا تجاه الفلسطينيين ليلحق به وزراء الليكود والاحزاب الدينية، سعيا لوقف الانزياح بين جمهورهم الى "اقصى اليمين" كما صرحت على سبيل المثال الوزيرة ميري ريغيف في اجتماع الكابنيت في تبريرها لاقتحام رفح دون الاكتراث بحلول شهر رمضان "كما اننا تلقينا الضربة في عيد فرح التوراة فمن المؤكد اننا مطالبون بأن نتعامل بالمثل ولا نكون اكثر رحمة منهم في شهر رمضان"، بينما الاقل اكتراثا على مصير الليكود الذي تظهر مؤشرات لبداية اندثاره هو رئيسه نتنياهو. والذي كما بن غفير باتت مواصلة الحرب ضمانته للبقاء في الحكم.
قد يكون حزب شاس الديني الاجتماعي لليهود من اصول مغاربية هو الاكثر تحديا لبن غفير وتياره لكون قيادة شاس معنية بالتصدي لنفوذ بن غفير في صفوف جمهورها، كي تحافظ على هوية الحزب، وهو شرخ قد يتطور داخل الائتلاف الحاكم وقد يكون المفتاح لتصدعه وذلك لكون هذا الحزب على توافق مع رئيس المعسكر الرسمي غانتس، ويريد الحفاظ على هويته الدينية الاجتماعية. للخلاصة:
الصورة: حرس الكنيست يُخرج بن غفير من القاعة، قبل نحو سنتين (تصوير: المكتب الإعلامي للكنيست)
إضافة تعقيب