news

جريمتنا بحق أنفسنا

كتب الكثير عن مأساة الشعب الفلسطيني، ربما أطنان لا تحصى من الورق، الذي اصفر  على رفوف المكتبات، وأطنان من الحبر السائل الأسود والأزرق، والأحمر، والألوان المشتقة من نفسها، قبل دخول عصر الانترنت المقيت، الذي يغرقنا الآن في مزبلة كريهة من المقالات غير المراقبة...واصبح كل "كاتب فلسطيني" صغيرا كان أو متوسطا سيكون، ينظر ويطرح طروحات لحل القضية الفلسطينية، وأنا بدوري، بدأت أكره هذا الاصطلاح: " القضية الفلسطينية"..ومنذ الآن استبدل الاصطلاح الدارج ب: "الماساة الفلسطينية"... وما بالك بأثرياء المأساة...بعض الدارسين، المنهمكين في تحليل تاريخ وواقع المأساة، محللون لا حصر لهم، وتحليلات لا حصر لها، واستنتاجات تبدلت، تبدل لونها، وتبدلت رائحتها، وأحيانا كانت الرائحة كريهة ، حتى أنها سببت التقيؤ لقارئيها...واليوم ، بعد نكبة غزة، التي حضرت بعد نكبات عدة، كبيرة وصغيرة، ونكيبات، وفي عصر الفضائيات نواكب" سيركا" لا شبيه له في تاريخ السيرك العالمي...نجومه أكاديميون، ومحللون سياسيون، وسياسيون أكل الدهر عليهم وشرب حتى" تشردق"...يرقصون رقصة المونو، ورقصة التانجو، ويلوحون، وينشدون نشيدا زائفا مكررا، بلا لحن، وأحيانا بلحن لا تستطيع الأذن أن تستقبله...حلبة تتيح لهم أن يتصارعوا "كلاميا" بلغة صحافية، أحيانا نصف أكاديمية، وأحيانا بلغة شعبية هزيلة...البعض يقبض عدة مئات من الدولارات... تدخل الى حسابه الخاص في البنك الفلاني...وذلك المحلل، بعد أن ينتهي من سفسطائيته على شاشة الفضائية، يذهب مرتاحا الى بيته( لم تتغبر بدلته، ولم يشم غبار الفوسفور الأبيض، ولم يشاهد بأم عينه أشلاء الأطفال كما شاهدها تامر المسحال) ويجلس الى طاولته، يأخذ القلم والورقة ليحسب  كم قبض اليوم، وكم قبض قبل البارحة، وينتظر الهاتف من فضائية أخرى لتدفع له في الأسبوع القادم على سفسطائية قادمة...
ومن جهة أخرى... وهذه الجهة أسوأ وألعن، وأمأسأ ( من كلمة مأساة)،...نشاهد السياسيين، أصحاب " القضية الفلسطينية"، وهم كثر، كثر نسبيا لعدد المنكوبين منذ مئة سنة...وأنا اسمع في الأخبار أن عشر فصائل ،أو أكثر،فلسطينية، معارضة للتهدئة...وفي اليوم التالي أسمع عن فصيل جديد وعن تنظيم جديد ،" خرج من رحم القضية الفلسطينية"... يعلن سؤوليته عن عملية ما( هكذا، ربما على خاطره وخاطر فئة جديدة تريد أن تحرر فلسطين...وما أدرانا ، أحيانا أن يد الاحتلال ليست من وراء بعض العمليات، لكي تجد المبرر للقصف والقتل والتدمير؟).وأنا أقول أن الرحم الذي يولد منه أكثر من عشرة توائم، سيلد الى هذا العالم توائم مشوهين...هل نحن بصدد ديموغرافية نضالية فلسطينية فريدة من نوعها...؟.أيها الفلسطينيون! لاسرائيل مشكلة ديموغرافية معنا، فهل نخلق نحن مشكلتنا الديموغرافية النضالية التي ستهدد كل نضالنا؟...أنا خائف من تعداد لا نهائي للفصائل الفلسطينية التي تريد، تود، تسعى، تأمل، وتتوخى أن تحرر فلسطين...وأنا أخشى الآن أن يصبح لكل فلسطيني فصيلا خاصا به، وبهذه الحالة سيصل تعداد الفصائل الفلسطينية الى عشرة ملايين فصيل...وسؤالي لكم: كيف ستحررون فلسطين اذن؟...يا للهول! لكل فلسطيني فلسطينه...كيف لنا أن نحرر عشرة ملايين فلسطين اذن؟ فلسطين في الذاكرة شيء، وفي الحاضر شيء آخر...وخوفي أن تختزل فلسطين في المستقبل الى وهم...

 

المهم...!

عشرات السياسيين، أصحاب الشأن، يظهرون على شاشات الفضائيات، يتناحرون، يتصارعون، ولكل واحد منهم برنامج، أو فلنقل أجندة،لهذا الشعب المنكوب منذ مئة سنة... وسؤالي هو: كيف توصلوا الى هذه الأجندة؟ وهل يعرفون ماذا يريد هذا الشعب؟وهل الشعب البسيط، الذي يأكل اليوم في غزة " وجبة واحدة"( والله يعلم عن تكوينة هذه الوجبة، ويبقى صامتا، ساكتا، خائفا من شعب اختاره ذلك الله) هل يفهم مصطلحاتهم، مصطلحات السياسيين، ومصطلحات الأكاديميين؟ هم يتصارعون على الشاشة، والأطفال في غزة ينامون في العراء، هم يتصارعون والنساء لا يجدن قوتا لانتاج الحليب في أجسادهن لارضاع الرضع...
وأنا اقول: الشعب الفلسطيني المنكوب لا يحتاج الى سفسطائية المحللين والمفكرين، وبالذات أولئك المفكرين، الذين تركوا أرض المعركة، ويسمونهم" مفكروا الشنطة" ( أي الشنطة المليئة بالدولارات نقدا، وهي منقذتهم في حال سئم منهم مستأجروهم، أصحاب الفضائيات... واللبيب من الاشارة" يفهمو")

 

الشعب الفلسطيني بحاجة الى فصيل " واحد ووحيد"، فصيل حكيم، مقاوم حكيم،  ذي حكمة ووعي تاريخي، وليس وعيا مهزوما ومأزوما...حاملا المأساة على ظهره لكي يبرهن للعالم انه مظلوم...المأساة لا تحتاج الى براهين، المأسة حصلت قبل أن أولد أنا ابن الستين...أنا لا حق لي أن أحيا حتى الآن اذا لم استطع أن ابرهن للعالم أن المأساة حصلت، وتحتاج الى حل انساني...أيها السياسيون الفلسطينيون! ماذا تفعلون في مكاتبكم المرفهة؟ وفي منافيكم المرفهة؟ بالله عليكم...!نشاهدكم على الفضائيات ببدلات وبلحى ، نستطيع ان نشم بارفيوما فرنسيا فائح منها...تخرجون من شققكم المرفهة الى المقابلات التليفزيونية، بعد أن أمضيتم الوقت الكافي لجسدكم أن ينعم بالماء الساخن، الذي يحرك الدم ، لكي يحرك خلايا دماغكم، وعلى ما يبدو ان درجة حرارة الماء كانت أكثر من ستين، فخرجتم الى الفضائية بتصريحات تلائم درجة حرارة الماء الذي سال على أجسادكم التي لن يصيبها غبار الفوسفور الذي احرق أجساد أطفال غزة..

 

وأقول لكم أيها السياسيون: سعادة اسرائيل تزداد عندما يزداد عد الفصائل الفلسطينية التي ستزاود على بعضها البعض...لكي تنتصر عليكم اسرائيل، فهي بحاجة الى عشرين، أو ثلاثين أو حتى مئة من الفصائل الفلسطينية التي ستزاود على بعضها البعض.

ولهذا السبب، أنا الانسان البسيط، في هذه الحالة، أتوجه الى سياسيي الفصائل: ( ويا ايها القاريء انتبه..نحن نتكلم عن فصائل) ان يتنحوا، وأن يستقيلوا، وأن يطلبوا الغفران والمغفرة من شعبهم....وأن يخلوا الطريق لفصيل واحد ووحيد، مقاوم، حكيم، يتحلى بوعي تاريخي، ومحارب للوعي المهزوم والمأزوم، لكي يقود عملية التحرير بحكمة.

 

ملاحظة: لم أتطرق الى جرائم اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، لكي لا أقع في التكرار المميت...الكل يعرفها وهي موثقة...نحن نعرف جريمتهم...وأتى الوقت أن ننظر الى جريمتنا بحق أنفسنا.