في السادس والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) عام ٢٠٠٩ تمر الذكرى السنوية الأولى لرحيل القائد العربي الكبير، الأب والمعلم والصديق والرفيق الحميم الدكتور جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب قبل ستة عقود، ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قبل أربعة عقود.
مسيرة طويلة ورحلة شاقة ومعقدة حافلة بالكفاح البطولي الصادق والأمين، حافلة بالإنجازات والإخفاقات بالتقدم والتراجع، غنية بالدروس والاستخلاصات والعبر.
إنها مسيرة الآمال والآلام التي جسدت مسيرة شعب مكافح وعملاق لا يعرف اليأس والخنوع وجسدت مسيرة أمة ترفض الذل والخضوع.
مسيرة الآمال والآلام نحو تحرير فلسطين ودحر الغزوة الصهيونية الاستيطانية الاستعمارية التي حولت حياة الشعب الفلسطيني إلى جحيم وشردته في كل أصقاع الأرض.
آخر الكلمات التي سمعناها منه في غرفة العناية المشددة في مستشفى الأردن قبل يوم من رحيله وكان في كامل وعيه، سؤاله عن أخبار قطاع غزة والحصار المفروض على أهلنا هناك.
لم أكن أرغب الحديث معه في السياسة لكي لا أثقل عليه، وتحدثت معه ببعض القضايا ولفترة قصيرة، وقلت له يجب أن ترتاح وخرجت.
ولكنه نادى الطبيب الموجود في الغرفة وطلب إليه أن يعيدني لمواصلة الحديث وسألني ما هي أخبار قطاع غزة؟ فقلت له يجب أن ترتاح، لكنه أعاد السؤال مرة أخرى، ولما أخبرته أن الناس اقتحموا المعبر ابتسم وبدا السرور في عينيه، قائلاً: ممتاز، ممتاز، سيأتي اليوم الذي تزول فيه الحدود بين الدول العربية ويتحقق حلم الوحدة.
نعم أيها الحكيم: ها هم أبناء شعبك العظيم يوحدون جماهير الأمة من المحيط إلى الخليج، لتخرج إلى الشوارع في كل العواصم مؤكدة أن قضية فلسطين كانت ولا زالت وستبقى القضية المركزية للأمة العربية.
نعم أيها الشهيد القائد: ها هم أبناء شعبك العظيم في قطاع غزة الصمود والانتصار يحاصرون الحصار مؤكدين للعالم أجمع أن المقاومة مستمرة لن ترضخ ولن تستسلم، مهما كانت الظروف والشدائد والتضحيات. ومؤكدين ان الوحدة الوطنية الفلسطينية ستبقى مطلبهم، لأنهم يعلمون أنها الشرط الضروري لطرد الاحتلال وتحرير الأرض.
جورج حبش لم يكن يفكر إلا بفلسطين وشعبها ولم يكن يفكر إلا بالأمة العربية ومستقبلها حتى آخر لحظة من حياته.
نعم، فقدت فلسطين وفقدت الأمة العربية والإسلامية، وأحرار العالم كله رجلاً كان من أغلى الرجال وأصدق الرجال وأشجع الرجال، بقي قابضاً على المبادئ كالقابض على الجمر، رغم كل الظروف والتحولات والعواصف.
التقيت الدكتور جورج حبش للمرة الأولى في بيروت عام ١٩٧٢ وكنت قادماً من سوريا. كان نحيل الجسم وقد تعافى من أزمة قلبية ألمت به في ذلك العام. دار حوار حول أمور سياسية وتنظيمية داخلية. يأسرك هذا الإنسان الكبير بشخصيته الجذابة والكاريزما الهائلة التي يمتلكها. يتحدث إليك وكأنك تعرفه ويعرفك منذ زمن طويل.
تفاجأ بمدى تواضعه ودماثة أخلاقه وتهذيبه وحبه للاستماع اذ يعطيك الفرصة للحديث ويستمع بإصغاء وانتباه شديد، وفي نهاية الحديث سألني:
كم عمرك؟ قلت تسعة عشرة عاماً، فقال: هل أنت طالب جامعي؟، قلت: نعم، فقال: يا بني ان جيلكم والأجيال الفلسطينية القادمة ستكون أكثر وعياً وخطورة من جيلنا، لأننا عندما كنا في عمركم لم نكن بمستوى وعيكم ولم نكن نتحدث ونعرف السياسة كما تعرفونها اليوم.
سألته: متى ستتحرر فلسطين يا حكيم؟ فكّر لبرهة من الوقت ثم قال: يمكن أن تكون فلسطين محررة في عام ٢٠٠٠ و في كل الأحوال هذا يعتمد عليكم أنتم جيل الشباب.
وأتذكر أنني اتصلت به تلفونياً، وكان في عمان في شهر ١٢ عام ٢٠٠٧ بمناسبة الذكرى الأربعين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لتهنئته بالمناسبة، وذكرته مازحاً بهذا الحديث الذي جرى قبل ٣٥ عاماً. فقال ضاحكاً: القضية أعقد ما كنا نتصور وحجم التآمر أكبر مما كنا نعتقد، وأمراضنا الداخلية في الساحة الفلسطينية كثيرة، وأضاف أن تحرير فلسطين قادم وأن المشروع الصهيوني يسير نحو الزوال، المهم أن يتم استخلاص الدروس، أين أخطأنا وأين أصبنا، المهم ان نجيب على السؤال المركزي الكبير لماذا أخفقنا حتى الآن؟ ونكون صادقين مع أنفسنا ومع شعبنا وأمتنا.
بعد اجتياح لبنان عام ١٩٨٢ والخروج من بيروت وانتقال مركز قيادة الجبهة الشعبية إلى دمشق، عملت معه بشكل مباشر ويومي لسنوات طويلة وتعرفت بصورة عميقة على مكونات شخصيته الآسرة تتعلم منه كل يوم أشياء جديدة. لا يعرف المستحيل ويؤمن بأن الجماهير طاقة لا حدود لها.
متفائل بشكل دائم ـ منظم إلى أبعد الحدود، متسامح إزاء الأخطاء الصغيرة، ولكنه قاس إزاء الأخطاء المسلكية التي تتعلق بالنزاهة والاستقامة.
بسيط جداً في حياته، لا يحب البهرجة والحراسات والاستعراضات، ويعتقد بأن حماية القائد يمكن أن تتم بدون ضجيج.
جورج حبش لا يعرف اليأس والتراجع، بقي مؤمناً حتى آخر لحظة من حياته أن تحرير فلسطين مسألة وقت وأن المشروع الصهيوني يحمل بذور فنائه من داخله، وأن بقاء هذا الكيان مرتبط بحالة الضعف والتفكك العربي والفلسطيني.
ذات مرة وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي سأله صحفي أميركي بنوع من الخبث، دكتور جورج، ماذا ستفعلون الآن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد أن اعترفت بعض الدول العربية بإسرائيل، هل لا زالت أهدافكم وأحلامكم قابلة للتحقيق؟
نظر إليه الحكيم، وقد لمعت عيونه قائلاً: أهدافنا سوف تتحقق، هل نسيت أن هناك (٣٥٠) مليون عربي يرفضون وجود الكيان الصهيوني؟ هل نسيت أن هناك ملياراً وأربعمئة مليون مسلم يرفضون وجود هذا الكيان؟ فقال له الصحفي: لكن أنت مسيحي، فأجابه الحكيم: أنا فلسطيني وعربي ومسيحي وخلفيتي إسلامية، وهذا الوطن سنحرره وهذا المشروع الصهيوني لن يكتب له البقاء. بعد عدوان تموز عام ٢٠٠٦ على لبنان وصمود المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله لمدة (٣٣) يوماً واندحار الجيش الصهيوني وقصف حيفا وما بعد حيفا.
اتصل الدكتور جورج حبش تلفونياً وهو بحالة ابتهاج وسرور لا يوصف قائلاً: أرجو أن تبلغ تحياتي وقبلاتي لسماحة السيد حسن نصر الله، وتقول له: إن الحكيم على امتداد مسيرته الكفاحية كان يتمنى الفوز بالشهادة، ولكنني الآن أحمد الله الذي أطال بعمري لأرى صواريخ المقاومة اللبنانية الباسلة وهي تقصف حيفا ويافا وعكا والناصرة. إن يوم النصر قريب وهزيمة هذا الكيان إمكانية واقعية إذا توفرت إرادة الصمود والمقاومة وإذا توفرت القيادة المخلصة والصلبة المؤمنة بعمق بعدالة قضيتها وسلامة أهدافها.
وأتذكر أثناء حصار بيروت عام ١٩٨٢ زارنا في موقعنا العسكري في منطقة الفاكهاني في صباح اليوم التالي الذي أعقب القصف الصهيوني العنيف لمدينة بيروت براً وبحراً وجواً، والذي استمر ثماني عشرة ساعة متواصلة، حيث تغيرت معالم المدينة البطلة، وكان يسير بين الأنقاض والبيوت والمكاتب المهدمة، واذ بأحد الصحفيين الأجانب يقترب منه ويسأله: دكتور جورج ماذا يوحي لك هذا القصف وهذا الدمار؟ وأجاب قائلاً: المزيد من حب السلام، المزيد من حب الأطفال، المزيد من الحقد على العدو المجرم والمتوحش، المزيد من الإصرار والإيمان والتفاؤل لمواصلة القتال ضد الظلم والقهر والعدوان. وأضاف قائلاً: إن ما تشاهده هو خير دليل على ضعف وتوتر وقلق هذا العدو الصهيوني الذي يسير عكس تيار التاريخ والذي لا يمكن التعايش معه ومع دوره ووظيفته الاستعمارية الغاشمة.
غياب جورج حبش ليس إلا حضوراً من نوع جديد، ولا نكتب عن الحكيم في الذكرى السنوية الأولى لرحيله لتكريم تقتضيه المناسبة أو وفاء لرجل ثائر، وقائد تاريخي متميز وشجاع، بل نكتب لأننا نتمسك بالقيم والأهداف والمبادئ السامية التي عاش واستشهد في سبيلها.
ليس الحكيم موضوعاً، لأنه حاضر فينا بكل قوة، ملهماً ومعلماً وقائداً وثائراً ورمزاً تتجسد فيه أسمى وأنبل قيم العطاء والتضحية والإخلاص والتفاني والوفاء.
لقد خرجت الناس في وداع جورج حبش يوم رحيله قبل عام على امتداد ارض الوطن، في المحتل من أرضنا عام ،١٩٤٨ وفي الضفة والقطاع والقدس، وفي كل مواقع اللجوء والشتات في سوريا ولبنان والأردن وعلى امتداد الأرض العربية وفي المنافي البعيدة في أميركا وأوروبا وأميركا اللاتينية، وكل هذا كان يعبر ببساطة شديدة عن تمسك الناس والجماهير بقضيتها وتمسكها بمبادئها وأهدافها العادلة، لأنها رأت في جورج حبش الضمير الحي المعبر عن النهج السياسي المبدئي السليم.
عندما خرجت الجماهير معبرة عن الوفاء لهذا القائد الفلسطيني والعربي الكبير، فإنها كانت تؤكد تمسكها بثوابتها وحقوقها الوطنية غير القابلة للمساومة والمقايضة وخاصة حقها في العودة إلى أرضها وديارها التي هجرت منها قسراً عام .١٩٤٨
لم يكن الدكتور جورج حبش سياسياً محترفاً، بل كان مناضلاً صادقاً يريد أن يستعيد وطنه ليعيش شعبه بكرامة على أرض هذا الوطن.
قبل حصول النكبة عام ١٩٤٨ لم يكن يميل إلى السياسة كان يحب الموسيقا والسباحة وكان طالباً متفوقاً ذهب الى بيروت ليكون طبيباً، ولكن الجريمة الكبرى، جريمة اقتلاع الشعب العربي الفلسطيني من أرضه ودياره بقوة السلاح والإرهاب وتزوير حقائق التاريخ أحدثت صدمة كبيرة وعميقة في تفكيره وقلبت مجرى حياته رأساً على عقب.
شاهد الناس وهي تخرج من مدينة اللد الى المجهول وشاهد المآسي والإرهاب الصهيوني الذي لا يوصف فقرر الرد على ما جرى وهذا ما جعله مع رفاقه يؤسس حركة القوميين العرب، وبعد ذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لأنه شعر أن من واجب كل فلسطيني وعربي أن يرد على الجريمة.
كان ديموقراطياً الى أبعد الحدود، يكره القيادة الفردية ويكره الاستئثار، وكان يقول دائماً أن العقل الجماعي هو الذي يمكن أن يقدم الفكرة الصائبة.
ورغم كل مكانته كقائد تاريخي مؤسس وقائد عملي أول للجبهة الشعبية وهيبته وحب رفاقه له وشخصيته الإنسانية المؤثرة، إلا أنه كان يلتزم بقرارات الهيئات القيادية إذا تعارضت في بعض الأحيان مع قناعاته الشخصية، ولذلك كان من أهم انجازاته أنه بنى وأسس حزباً ديموقراطياً تحكمه المؤسسات والقيادة الجماعية.
كان عاطفياً إلى أبعد الحدود وصادقاً بكل معنى الصدق، تسيل منه الدموع عندما يلتقي والدة شهيد أو جريح.
إن كل التحولات والنضالات في فكر وحياة جورج حبش خلال العقود الستة الماضية كانت من أجل فلسطين. البوصلة تحرير فلسطين، الفكر من اجل فلسطين، السياسة من اجل فلسطين، التنظيم من أجل فلسطين، كان واضح الرؤية، عميق التفكير ملتصقاً بشكل كامل بأهداف شعبه وأمته.
مرت تجربته النضالية العربية والفلسطينية بمنعطفات كبيرة وتطورات عديدة، ولكن على الرغم من كل التطورات والتحولات فإن تجربة الحياة بلورت في ذهنه مجموعة من الثوابت كان يؤكد عليها باستمرار ويعيدها على مسامعنا باستمرار أبرزها:
١ـ سلامة الخط السياسي من خلال التأكيد على حقيقة الكيان الصهيوني ككيان عنصري إجلائي استيطاني مرتبط بالامبريالية، يمثل أسوأ ظاهرة استعمارية في هذا العصر لا يمكن التعايش معها أو التسليم بوجودها.
٢ـ ترابط النضال الوطني الفلسطيني مع النضال العربي وان قضية فلسطين قضية عربية، صحيح أن إبراز الشخصية الوطنية الفلسطينية كنقيض للمشروع الصهيوني الذي يستهدف تبديد وطمس الهوية الفلسطينية أمر هام وضروري، ولكن في الوقت ذاته لا بد من التأكيد على قومية المعركة، وترابط النضال الوطني الفلسطيني الوثيق والجدلي مع نضال أمتنا العربية.
٣ـ أهمية بناء جبهة عريضة على المستوى الفلسطيني والعربي تضم التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية المناضلة والمكافحة كافة، القومية واليسارية والإسلامية لمواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري الذي يستهدف المنطقة بأسرها، وتغليب المصالح العليا للشعب والأمة على أية مصالح فئوية أخرى.
٤ـ ترابط أشكال النضال كافة وفي طليعتها المقاومة المسلحة كأرقى شكل كفاحي وخيار استراتيجي تفرضه طبيعة العدو العنصري الاستيطاني الذي نواجهه، لكن دون التقليل من أهمية الأشكال النضالية الأخرى كافة.
٥ـ أهمية وضرورة الربط الدقيق والواضح بين الاستراتيجية والتكتيك وعدم جعل التكتيك ينتهك الاستراتيجية او يضرب مرتكزاتها وثوابتها.
٦ـ أهمية الربط بين النضال الوطني والقومي التحرري والنضال الطبقي الاجتماعي، لأن معركة التحرر الوطني ليست معزولة عن بعدها ومضمونها الاجتماعي.
٧ـ ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية باعتبارها السلاح الضروري في مرحلة التحرر الوطني لمواجهة العدو الصهيوني، وأهمية التعددية الفكرية والسياسية والاحتكام للخيار والحوار الديموقراطي في معالجة التناقضات الداخلية.
٨ـ أهمية ترابط وتكامل حلقات النضال الفلسطيني والعربي والأممي في مواجهة المشروع الامبريالي الصهيوني الذي يشكل خطراً على الإنسانية بأسرها.
لا شك في أن مسيرة القائد الكبير الدكتور جورج حبش سيكتب عنها الكثير، لأنها مسيرة حافلة بالدروس والاستخلاصات، مسيرة الآمال والآلام التي عاشها الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة.
وكما قال شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش في كلمة بمناسبة ذكرى الأربعين لرحيل الحكيم: »رحل جورج حبش في عام النكبة الستين، دون أن يشفى من جراح النكبة، لا لأنها كانت تراجيديا تاريخية كبرى.. بل لأنها ما زالت مستمرة.
([) عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين