لست متدينا ابدا، فأنا مْربي شَعْري حتى وهو شايب، وأحلق يوميا شَعر دقني وشواربي، وألبس البنطلون، وأشرب دخانا، وأسلّم مخامسة على النساء إذا أردنَ ذلك، وأحضر حفلات الزفاف والفَن، وأحيانًا أرقص على قدر معرفتي، وأشرب في المناسباب كأسا او اربع كؤوس من الخمر، فأنا لست متدينا، مع أني أحترم القيم الانسانية السامية لكل الأديان، وأنفذ العديد من الوصايا، فلا أكذب ولا أفسِد ولا أسرق ولا أقتُل ولا أحسد.. قد تفلت مني واحدة من الوصايا، واحدة فقط، لأن كل الاعمار تخنع وتخضع وتركع للغرام والحب والهيام، هي واحدة فقط من عشر، تكفيني علامة 90% إذا اعطينا لكل وصية عشر علامات.
لهذا العيد عندنا ثلاثة اسماء، عيد رمضان، وعيد الفِطر، والعيد الزغير وهو الدارج عندنا، والعيد الزغير أخ للعيد الكبير، عيد الأضحى، كانت ستي مياسة وسيدي راشد من جملة الذين يصومون، فأنا لا اعرف الجميع.
كنا نحن الاولاد ننقهر ونغضب إذا حلّ العيد الزغير يوم الجمعة، يوم عطلة المدرسة، فيوم الجمعة هو يوم عطلة بعيد وبلا عيد، نريد يوم عطلة جديدا، والاولاد يحبون العطلة.
ليلة العيد الزغير كنا نشتري الشمع الملون الصغير من احمر وأصفر وأبيض من دكاكين ابو ضامن او ابو رجا وأبو توفيق وأبو يوسف ونذهب الى مُغر العيد تحت بيادر حْسون، واسم مغر العيد على اسم العيد، مغر العيد ثلاث مغارات، واحدة منهن لا يمكن الوصول اليها، وهي الشمالية، بابها مسدود بالعليق الشائك ورجم الحجارة وعظم المواشي، عظم حمير ومعزى وفطايس، المغر الثلاث متلاصقة، البنات ينظفن ارض المغارتين بمكانس العبهر والبلان، ونروح نضوي الشمع، شمعة من شمعة، فمعنا شحاطة واحدة، ونضع الشمع على حيطان المغارة المخدرشة او على الزوايا، الشمعة صغيرة، قصيرة ورفيعة ومحززة، في وسطها خيط من راسها لكعبها، تماما كما يأمر المشايخ النساء المتدينات، لبس محتشم من الراس للمداس، الخيط في راس الشمعة نافر قليلا، نشعله وننقط كم نقطة شمع على البلاط ونقعّد الشمعة هناك، البنات يعملن – مْبرّدة – وهو اسم التبولة في تلك الايام، ونأكل مع ورق العنب او الحميض بحسب الموسم، ثم يتهيأن للحلقة، أي الدبكة، كثيرات منهن بلا مشّايات، حافيات، وكذلك نحن، تأتي الواحدة وتقول لصاحب الحظ: لبِّسني مشايتك بدّي أدبك في الحَلقة، ونحن نتفرج ونتسمع على الغناء او نسهر على الحزازير والحكايا وصفّ السحجة وحكي الرّزالة. نسهر لبعد نصّ الليل، ونلاحق سراج الليل والوطاوط، التي تتعلق احيانا في سقف المغارة وتصير صغيرة جدا، ولا نخاف من الغولة لأننا كثار، عشرات، احيانا نخوّف البنات بالغولة والضبع حتى يتخبّأن فينا ويعبطننا، وهذه هي السعادة المطلوبة.
أما يوم العيد، فنتبدّل ببدلات جديدة حسب الامكانيات والأهل يعطون الواحد تعريفة او قِرشا او "بْتاع القِرشين". ننتظر بيّاع القِرْمِش، الذي يحضر طبخة القرمش الملون – احمر وزهري، يمطّ ويلُك القرمش الناعم على ذراعه كالعجين الحَيِّيل، ونشتري القُطَم من القرمش الحلو، والبياع معروف، يدور في دروب البلد وينادي – يلله قِرمش قِرمش، وأحيانا نشتري ملبس عَصنوبر، والبعض منا يُسابق ويحارج في فَرْن البلابل، والبلبل من خشب ملون، في رأسه مسمار غير حاد، ونلكّ عليه العِروة من الخيطان ونضربه على الارض: مْغَشِّش، وهو يَفرن قبل ان يوَلي ويتوقف عن الفَرْن.
ونلعب البنانير، والكْلال، وزواقيل العَفْص، وحتى كُوَر الحجارة، ولعبة الإكس. الناس لا يشتغلون يوم العيد الزْغير، أهلنا يشترون اللحم من عند اللحامين، كان في البلد ثلاثة لحّامين، وكل اللحم لحم معزى بلدية، يذبحون الثِّني والرّباع والكُراز والحايل، وعندما أحضر احدهم جاموسة من الحولة تقاطر الناس لشراء لحم الجاموس وعمل أقراص المنسوفة، والمنسوفة لا تكون الا من لحم البقر او الجاموس. ويشترون النّقل، ملبس وطوفا، وفسدق عبيد، ويعزمون على الكبة وطبيخ الرز او الجريش مع يَخْنة لبن او دِبس البندورة، ومن الصبح بكير نسمع دقات مهابيج القهوة او دَق لحمة الكبّة على البلاطة، وحياة أبو حَمَد كان شاطر في نقر بلاطات الكبة، اما الدّقاميق فمِن عمل ابو علي أحمد وكذلك زلف الخشب والقطايل، كنا نكيف ونحن نسمع الناطور ينادي – يلله على اللحم عند صالح شاهين، وصالح شاهين هو خالي أخو امي، وأشطر لحّام في البلد، مشهود له في البلد وخارج البلد، حتى ان لحاما من عسفيا قال: كلنا نحط الطاعة لبو يوسف، لم تكن هنالك أكياس نايلون، كل واحد ومعه جاط عظم، او لجن نحاس مبيّض صغير، ولم نعرف الكيلو، يشترون الرطل والنّص
رطل، والقصبة والزايدة والتعظيمة، اما الكرْش والراس والكراعين فهي ببلاش.
جاءت الايام السّودا، وسرقوا العيد الزغير،
- هذا مِش إلكو، هذا للاسلام.
والمشايخ يرددون:
- هذا العيد مِش إلنا.
المصادرة طالت العيد والهوية والتراث والارض. والمشايخ يؤيدون او يسكتون، مع انهم لا يدخنون ولا يشربون الخمر، ولا يربّون شَعرهم ولا يلبسون البناطيل.
"عوّضوا" عن العيد بتحويل "الزيارة العمومية" الى عيد. وهذه السنة أقاموا "فرتوكة" اسمها "دوّار المقاتِل الدرزي" في القدس!! وهذه الماكنة الجهنمية تفرن كالبلبل وتفرم في الحقوق بتأييد من مشايخ لا يدخنون، ولا يحضرون الفرح بسبب الورع والتّقى، ومع ذلك وبالرغم من أنف المخابرات الحاكم الفعلي لهذه السرقات وكل العملاء والمتعاونين، يعود الناس رويدا رويدا الى تعييد العيد الزغير، وكلما كان أسرع واكثر كان افضل.
الله يرحم الاهل ايام زمان، اللحّام والدكنجي، وبياع القِرمش، والحجار وبلاطات الكبة، والدقماقة وزلف الخشب والمعّاز والراعي، ودواليب الورق التي تدور في الريح، وزواقيل العفص، والدبيكة ولعّاب الشبابة والارغول، وكل من يعيّد العيد الزغير، وكل المشايخ الشجعان، وكل من يستاهل الرحمة اليوم وأيام زمان.
\\للمشايخ الشجعان
الله يرحم الاهل ايام زمان، اللحّام والدكنجي، وبياع القِرمش، والحجار وبلاطات الكبة، والدقماقة وزلف الخشب والمعّاز والراعي، ودواليب الورق التي تدور في الريح، وزواقيل العفص، والدبيكة ولعّاب الشبابة والارغول، وكل من يعيّد العيد الزغير، وكل المشايخ الشجعان، وكل من يستاهل الرحمة اليوم وأيام زمان.