للتاريخ صلة، تمتد ستة وعشرين عاما، من حصار بيروت خلال اجتياح العام ١٩٨٢ إلى حصار غزة العام .٢٠٠٨
تنظر سكنة أم علي وهي سيدة سبعينية من بلدة الخيام، إلى صور نساء غزة وأولادهن، عبر شاشات التلفزة، ثم تتلاحق الأسئلة في ذهنها، كيف يتنقلون؟ إلى أين يلجأون؟ ومن أين يأتون بطعامهم؟ بقيت تنظر وتسأل أياماً عدة حتى تعبت، فقررت تغيير الصورة لفترات عدة في النهار، واستبدالها ببرامج أخرى، وقضاء جزء من الوقت في قراءة القرآن.
تسأل لأنها تعرف ماذا يعني تساقط القذائف على المنازل وما فيها من عائلات، ماذا يعني أن لا يكون لديهم طعام ولا مياه ولا كهرباء، تعرف جيدا لأنها بدأت رحلة النزوح إثر احتلال الخيام في العام ١٩٧٦ ونسف منزلها الذي بناه زوجها بحجارة صخرية وسقف من قرميد، وانتهت بتدمير منزلها في الضاحية الجنوبية في حرب تموز العام ،٢٠٠٦ وما بينهما حروب أهلية واجتياحات وحصارات.
هي سيدة تعيش في راحة مادية، كان زوجها موظفا أيام كانت فيها الوظائف نادرة لدى أهالي الجنوب، بعد تدمير الخيام نزحت إلى بيروت واستأجر زوجها منزلا في منطقة الطيونة عند الطرف الشرقي للشياح، وهو المنزل الذي اقامت فيه قبل شراء منزلها الذي دمر في حارة حريك. لكنها اكتشفت سريعا أنها انتقلت من »تحت الدلفة إلى تحت المزراب«، واجهت الحرب الاهلية وأصبح منزلها عند خط التماس، بعد وضع المتراس الرملي امام المنزل مباشرة، فأخذ سكان المبنى يتنقلون بين الجدران لدى شراء الاغراض أو القيام بزيارة.
قبل أن يختفي المتراس حاصرت إسرائيل بيروت في العام .١٩٨٢ تقول أم علي إنها كانت أيام الحصار تذهب إلى فرن أبو عفيف في الحي عند منتصف الليل، تنتظر دورها مع من تبقى من سكان المنطقة، من أجل الحصول على ربطة خبز، واحيانا يطلع عليها الصباح وهي تنتظر. تشتري الحبوب والزيت والسكر والارز من الدكاكين القريبة حيث بقيت مؤونة قليلة.
لكن تأمين الطعام لم يكن شاغلها الوحيد ، فقد قررت البحث عن ابنها الذي كان لا يزال يافعا، بعدما ذهب مع المقاتلين: في بداية الاجتياح كان يتمركز في المبنى المجاور لمنزلنا في الطيونة، والحاجز الاسرائيلي عند المستديرة. اتفقده كل صباح وأعرف أنه لا يزال في المبنى فأشعر بالاطمئنان، لكنه اختفى ذات صباح، سألت رفاقه عنه فردوا أنه ذهب إلى مشارف بيروت، تركت ما تملكه من مال وحلي في المنزل، وذهبت برفقة جارتها للبحث عنه، اعتمدت التنقل سيرا على الاقدام بين مراكز المقاتلين، كلما وصلت إلى مركز تسأل عنه فيجيبها المقاتلون إنه غير موجود، ربما هو في مركز آخر، وهكذا... حتى وصلت إلى منطقة التيرو في حي السلم. كانت المنطقة مغروسة بكروم الزيتون، فدخلت إلى أحد الكروم وشاهدت أغصان زيتون مفروشة على الارض، تقدمت منها واكتشفت أنها أمام مجموعة من المقاتلين يضعون أغصان الزيتون على رؤوسهم وظهورهم للتمويه، رأت أحدهم يرتدي كنزة ابنها فخمنت أنه هو، شدته من الكنزة، لكنها وجدت شخصا غيره يرتديها.
كان الطيران الحربي الاسرائيلي يحلق فوق الكرم، صرخ فيها أحد المقاتلين: ماذا تفعلين هنا كشفتنا، فردت أنها تبحث عن ابنها، طلبوا منها المغادرة بسرعة، لكن الطيران بدأ القصف قبل مغادرتها، فركضت مع جارتها وعبرت الطريق ثم اختبأت في ملجأ قريب يقيم فيه مقاتلون آخرون. مر سائق بيك آب يحمل فاكهة الفريز، طلبت منه أن يقلها خارج منطقة التيرو، ومن هناك عادت إلى منزلها، فوصلته عند العصر.
عرف ابنها من رفاقه أن أمه جاءت تبحث عنه، وكان في خلدة فعاد مساء الى المنزل، وقف أمامها وأخذ يقول لها: لقد عرضت نفسك للموت، هل كنت ستسعدينني لو قصفتك الطائرات؟ فردت: أقبل يديك ورجليك، أريد أن أموت تحت رجليك ولكن لا تبتعد عني.
تتذكر أم علي وهي تضحك مشهد المقاتلين وهم يفرشون أغصان الزيتون على أجسادهم، لكنها تقول إنها عاشت يوما لا تنساه. تتذكر منزلها الثاني الذي دمر في حارة حريك، ثم تقول: الحمد لله لقد سلم الاولاد.
يقول أبو مروان من شارع المصبغة في الشياح إن الطبيعة الجغرافية تختلف بين بيروت وغزة، كانت المنطقة هي الأكثر تماسا مع المعابر، تحيط بها من كل جانب تقريبا: شاتيلا، الطيونة، كنيسة مار مخايل، الصياد، بينما يوجد في غزة معبر واحد مع دولة عربية وهو مقفل حاليا.
وصل الاسرائيليون حتى منطقة غاليري سمعان، حاصروا المنطقة من الجهات الاربع ومنعوا المواطنين من التحرك عبرها. لكن الدوريات الاسرائيلية لم تكن ثابتة عند المعابر، بسبب خوف الجنود من الهجوم عليهم، إثر معركة الغبيري التي احترقت فيها أربع دبابات.
يصف حاجز غاليري سمعان بالحاجز الاكثر تشددا: هناك كنا نشاهد كيف يعمل عناصر الحاجز من اسرائيليين والميليشيات اللبنانية المتحالفة معهم على تلف المواد الغذائية، لقد رأيتهم يأخذون ربطات الخبز من مواطنين ويسكبون المياه عليها أمام أعينهم من أجل تلفها. يقول أبو مروان إن غالبية السكان غادروا إلى قراهم في الجنوب وقضينا فترة شهر نأكل المعلبات من السردين والتونا والمارتديلا، كما سعى من بقي السكان إلى تأمين المياه من قسطل مكسور عند وزارة العمل القريبة من المشرفية،، بالاضافة إلى الآبار الارتوازية. لم يكن هناك كهرباء طبعا والضوء يستمد من الشموع، وما تبقى من عبوات غاز في المنازل والمحلات يجري استخدامها في طهو بعض المواد الغذائية، أو تسخين المياه.
ساهم تعدد المعابر بتمكين عدد من المواطنين من التسلل ليلا إلى مناطق خارج الشياح والاتيان ببعض المواد الغذائية: من الطيونة إلى البربير، ومن شاتيلا الى صبرا، ومن المنطقة المواجهة لبئر العبد الى الغبيري.
لم تعد أم عدنان التي خسرت ثلاثة من أولادها قادرة على تذكر الكثير، لكن ما تعرفه أنها كانت تتسلل ليلا إلى منطقة صبرا وتأتي بالفاكهة والخضار، لقد بقيت من أجل أبنائها، لكي تطهو لهم الطعام.
لم يكن سكان بيروت والضاحية يتوقعون وصول الاجتياح إلى العاصمة، لذلك لم يخزنوا مواد غذائية، ولم يكن متاحا لأهالي غزة تخزين المواد أو ما يكفي منها لأنهم كانوا يعيشون تحت الحصار قبل العدوان، على الرغم من توقعاتهم أن إسرائيل سوف تهجم عليهم في وقت قريب.