news

كيف ستترك قبر أمك .!؟

‏  نزلنا من الباص ،الذي أقلَّنا من القرية الى الجامعة، وتوجهنا الي مدخله . لنمر ‏بالفحص اليومي، الذي نتعرَّض له يوميًا ..فاحتجزوك على مدخلها، لأنك لم تجد في ‏جيبك ،بطاقة تثبت أنك طالب فيها .‏
‏  سمعتك وانت تقول للحارس : "انه ليس لديَّ شك أنك تعرفني، وتعرف انني طالب في ‏الجامعة ..!".‏
‏ " إنك تعيقني في أداء عملي ..!" .‏
‏  ردَّ عليك، وهو يسمح للطلاب اليهود، بالمرور دون أن يسألهم عن بطاقتهم .‏
فرجعتَ الى البيت، وأحضرتَ البطاقة، ولما اقتربتَ من نفس الحارس، تجاهلك ولم ‏يطلب منك البطاقة .!‏
قلتَ لي  وأنا جالسة بجانبك في الباص  ..‏
وأكملت والغيظ يكاد يتفجَّر من عينيك :‏
‏ " شعرتُ ان الإهانة الثانية ، كانت أشدَّ من الأولى ..!"‏
‏ كان تلك الحادثة ..  بداية تعارفنا .. ‏
كانت المرة الأولى، التي تشركني بمشاعرك ..  و بلحظات ضعفك ويأسك ..‏

‏  منذ اللقاء الأول ..‏
لاحظتُ أنك مندفع الى هدف، وضعته نصب عينيك، لا تنظر خلفك، ولا حتى الى ‏جانبيك ..‏
حتى أنا - بدأتُ احسُّ أنني جزء، من هذا المشروع، الذي رسمته وخططتَ له..‏
كان المشروع متكاملًا  : " من الميلاد حتى الممات .!" . ‏
كان صُلبًا ..‏
ولكن بقدر صلابته كان مهددًا بالانكسار ..!‏
حاولتُ - يا ربيع - أن أمدّ يدي الى  مشروعك، لأهزَّ مكعباته، التي بنيتها فوق بعض، ‏لعلها تهتزُّ أمامك أو فيك، ولكنك دافعتَ عنها بكلِّ قواك .. كدفاع القطة عن صغارها، ‏عندما تتعرَّض لاعتداء.‏
كنتَ تعيش في حلم، أنت بنيته .. كان بنيانًا يخلو من عنصر الشك، ومبدأ التجربة ‏والفشل .والبحث عن البديل ..‏
في لقائنا الثاني، شرحتَ لي وأفهمتني، أين مكاني وموضعي في مشروعك ..‏
يومها قلتُ لك، بعد أن انتهيتَ من شرحك :" نسيتَ ان تخبرني، متى سأموت، وأين ‏سأدفن ..!" .‏
كنت "غبيًا " يومها .. لم تفهم مرامي .. ‏
دائمًا كنت غبيًا،عندما تغرق في بئر مشروعك .! ‏
إلتقيتك في الحافلة التي تقلنا من الجامعة الى قريتينا ..‏
‏ شاركتك في هذه السفرات،من القرية الى الجامعة، مرات لا تحصى .. ولكن كانت تلك ‏المرة الأولى، التي أجلس فيها بجانبك..‏
جلسنا فيها متجاورين .. ولكن خيالنا كان يطوف بعيدًا، في فضاءات أخرى ..‏
ولكن عندما وقفتُ، لأمكنك من الخروج، من مكان جلوسك بجانب النافذة، سرقتْ عيني ‏لمعة من عينيك .. ‏
ولم أتخيَّل ان تكون هذه " الشرارة " هي التي ستحوِّل حياتنا نارا.. ‏
لا أعرف ان كانت هذه الحادثة، سيعاد عرضها أمام ناظريك .. على شاشة مخيِّلتك .. ‏هناك في صومعة انعزالك .!‏
وقضينا السنة الأخيرة في الجامعة، نلهث وراء المحاضرات والعلامات ..‏
وتحوَّلتْ لقاءاتنا العابرة، الى لقاءات لها تاريخ وجغرافية، والى لهفة وعتاب وانتظار ‏ووداع ..‏
وبكيتُ معك يوم ماتت أمك ..!‏
‏"لا تقولي ماتت .!" صرخت بي، كأني أنا التي اختطفتُ روحها .!‏
من ذلك اليوم شعرت أنك تغيَّرتً ..‏
وكأن مكعَّبات من برج مشروعك، قد اهتزَّت .. وشعرت بأنها مهددة بالسقوط .!‏
عندما التقيتُ بك، بعد رجوعك من مقابلة العمل الأولى ..‏
‏" دعوات أمي كان غائبة .! " ‏
قلتَ مبررًا عدم قبولك للعمل ..‏
‏" دعوات الأمهات.. يرافقننا حتى بعد فراقنا لهنَّ .!"  أجبتك ..‏
فسكتَ ..‏
ولم تعمل شيئًا من أجل إطالة اللقاء ..لتهرب لتحتمي بخلوتك، لتبكي على شرف ‏مشروعك المطعون ..!‏
وتوالت مقابلاتك، من أجل الحصول على العمل ..‏
في أحد اللقاءات، وبعد ان رُفضتَ للمرَّة العاشرة .. ‏
صرختَ شاكيًا :‏
‏"إنهم يرفضونني فقط، لكوني عربيًا..!" .‏
فأجبتك :‏
‏" ليس أمامنا سوى التحدِّي .. وعدم الاستسلام لليأس .!" .‏
فلاحظت أن ردّي " تزحلق " عن سمعك ..هكذا قالت لي عيناك، اللتان تاهتا في ضياع ‏معذَّب .‏
إلى ان فجَّرتَ في وجهي، قنبلتك الموقوتة..‏
‏" لقد وجدتُ عملًا في اميركا ..!" قلت وأنت تبعد نفسك، عن مواطن الانفجار ..‏
وتحدَّ ثنا عن هذا الموضوع كثيرًا، حتى أشبعناه من " لحمنا " ..‏
ورويناه من دموعنا ..‏
وتخاصمنا .. وتقاتلنا .. وتحاربنا .. وابتعدنا وعدنا لنلتقي ..‏
ولكن دون جدوى ..‏
أنت مصرٌّ على الهجرة  .. مصرٌ على أن نتزوّج، ونبني حياتنا في الخارج .!‏
وأنا مصرة على ان نبقى للعيش هنا .. في أرضنا .. في وطننا ..!‏
قلتَ وأنت تبصق كلامًا يقرف منه : " أبي يعارض هجرتي  ..ويريدني أن أشتغل معه ‏في أرضنا.." .‏
‏" ولم لا ..!؟" .‏
صحتُ كأني وجدتُ خشبة، تنقذنا من أمواج بحر التيه، الذي نعيش فيه ..!‏
‏" هذا لن يكون ..!". قلتَ .. وعيناك تطلقان شررًا .‏
وأنا أقول : " لن يكون ..! لن أغادر بلدي مهما كانت الأسباب !" .‏
رددتُ عليك بغضب شديد ..‏
حتى ولو كان أنا ..! صحتَ متحديًا ..‏
أنت الذي وضعتني في هذا الموقف !‏
قمتَ من مكانك،وسرتَ باتجاه محطة الباص ..وتركتني غارقة في حوّام مجنون ..‏
‏ مرَّ شهر على ذلك اليوم المحموم ..‏
لم أرك .. ولم أسمع عنك خبرًا ..!‏
جميع محاولاتي للاتصال بك باءت بالفشل .. أغلقتَ هاتفك النقال ..توقفتَ عن ‏الحضور الى الجامعة ..سألتُ بعض الأصدقاء عنك، فلم يسعفني أحد بشيء ..‏
فزاد قلقي عليك .. أحييتُ الليالي وأنا أفكر فيك ..‏
فقررتُ أن أذهب الى المزرعة .. الى مزرعة أبيك ..!‏
كنت أعي المخاطر والمشاكل،التي تسبب لي هذه الزيارة ..‏
ولم أنسَ أنني أعيش في مجتمع، لا يقبل ان تزور فتاة، عائلة شاب
لا تربطه بها رابطة رسمية ..‏
كيف سيستقبلني أبوك ..!؟ ‏
كيف ستستقبلني، في حالة وجودك في المزرعة ..!؟
‏ حتى ولو لم تكن هناك، ماذا سيكون رد فعلك عندما تسمع بها..!؟‏
بالرغم من كل هذا قررت القيام بها ..مهما تكون النتائج .!‏
ولما وصلتُ .. ‏
كان أبوك يحزُّ بمنشاره رفع شجرة زيتون ..‏
‏" قطع أغصان الشجر بوجع ..ولكن عند قطعه يصبح أقوى، ويعطي أكثر ..!" .‏
بدأ أبوك بالحديث، كأنه يعرفني منذ قرون ..‏
حدّثني عن الأرض والزيتون ..وارتباطه بها .. يعيش معها وتعيش معه .. ‏
كنت أنصت إليه هنيهة، وهو يسحبني الى مناطق ساحرة، تعيش فينا ، أيقظ بي حواس ‏نائمة،عندما " حكَّها " استيقظت بيَ تعاليًا
وشذى لحنين ساحر .‏
‏" ربيع وين .!" اختطفت لحظة من سيلان حديثه ..‏
‏" إنه يقضي أيامه ولياليه، بين الانزواء في غرفته، والجلوس عند قبر أمه ." .‏
ردَّ ونثرٌ من دموع يتطاير من عينيه
‏" ستجدينه هناك عند أمه في المقبرة !" .‏
أكمل وهو يهرب من أمامي ..ليقطع رفعًا آخر .‏
جلستُ بجانبك بالقرب من قبر أمك ..‏
وبعد صمت طويل ..قضيناه وكأننا لم يحس الواحد منا، بوجود الآخر همستُ :‏
‏" كيف ستترك قبر أمك ..!؟ " .‏
فقمتَ من مكانك .وسرتَ نازلًا من المقبرة .. وأنا أسير وراءك ..‏
وبعد أيام زرتك في المزرعة، فوجدتك تسقي الزيتونات . ‏
‏ (عرعرة)‏