news

مَـشـاهِـد ومُـشـاهِـد

شـارة نـصـر!

كان المشهد عظيمًا!
جنديّ إسرائيليّ يعتلي صهوة الدبّابة الخارجة من غزّة، تعتلي شفتيه ابتسامةٌ ليست بساحرة ولا آسرة. كانت يُمناه مرفوعةً وسَبّابتُه ووُسْطاه تصنعان شارة النصر!
ابتسمتُ. لولا مقادير الأسى والغضب التي كانت تهدر في أعماقي (ولا زالت)، لملأتُ البيت قهقهاتٍ.
هنيئًا لك، أيّها القاتل المهزوم! هنيئًا لقَتَلة الطفولة! هنيئًا لحارقي الأطفال! هنيئًا للرجال قَتَلة النساء والشيوخ! هنيئًا للضحيّة القاتلة! هنيئًا للقتيل القاتل!

 

حـقّـقـتْ أهـدافَـها!


يقف وزير "الدفاع" الإسرائيليّ مصرّحًا بثقة لا ينقصها سوى الموثوقيّة -بُعَيْدَ أن قرّر هو وحكومته وقف إطلاق النار من طرف واحد- أنّ حربه قد حقّقت أهدافها.
ذاكرتنا ليست معطوبة. لا زلنا نذكر الهدف المعلَن لشنّ هذه الحرب: وقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزّة نحو داخل إسرائيل.
الواقع أثبت صحّة ما صرّح به وزير الحربيّة؛ فبُعَيْدَ إعلانه ذاك، أُطلِق من داخل القطاع المحاصَر المسجون بضعة عشر صاروخًا، ولا زالت صواريخ القسّام تُطْلَق من هناك نحو البلدات الإسرائيليّة!
هنيئًا لوزير الحرب! لقد صمدتْ تصريحاته أمام صراخ الصواريخ! تصريحـاته / تصريخـاته لا تُقْنِع سوى مَن يتمتّعون بمقادير كافية من "الحَمْرَنة"! هنيئًا للمُقْـنِع، وهنيئًا للمقتـنع!

 

اقـتـنـاع!


أقنعتْنا هذه الحرب مجدَّدًا أنّ الفرق بين يمين هذه الدولة ويسارها الصهيونيّ كالفرق بين مثلّثين متطابقين.
أقنعتنا هذه الحرب بأنّ الوزارة التي يتولاّها إيهود براك اسمٌ هي على مسمًّى! هي وزارة الدفاع. الدفاع عن حقّ المحتلّ المحاصِر المستغِلّ في أن يدمّر القطاع المقطوع عن العالَم وعن الحياة. الدفاع عن حقّ السَّجّان في أن يهدم السِّجن على السجين. الدفاع عن حقّ القاتل في مُعاوَدة قتل القتيل. الدفاع عن حقّ السالب في ألاّ يدّخر جهدًا في سبيل محاولة إلباس المسلوب الباسل ثوبَ الهزيمة والحرمان والهوان. الدفاع عن حقّ السالب في أن يسلب الأمل من صدر المستلَب.

 

كــلام الـيـمـيـن


إلى ما قبل فترة وجيزة، كان عضوًا في حزب اليمين الأكبر: "الليكود"؛ بَيْدَ أنّ يمينيّة الليكود لم تعد تُشبعه أو تقنعه، فانضمّ إلى جسم سياسيّ أشدّ يمينيّةً.
إنّه عضو الكنيست عُوزِي لانداو الذي كان يُعتبَر من عقائديّي الليكود ومنظّريه. ليس من قبيل المتعة أن تستمع إلى كلامه، ولا إلى صوته الأبحّ المؤذي للمَسامع، ولا أن تنظر إلى طلعته الطالعة من خبايا أهرام الفراعنة. لكن من المهمّ الانتباه إلى مضمون كلامه وكلام سائر "العارفين" وَ "المنظّرين السياسيّين" اليمينيّين، وذلك أنّ رجال اليمين في هذه البلاد المبتلاة المضطربة أوْضَحُ وأصْرَحُ من رجال "اليسار". لست أنا "مكتشف" هذا الأمر. هنا، في بلاد الحليب الأسود والعسل المرّ، ما يَخجَل اليسارُ غيرُ اليساريّ من التعبير عنه يتكفّل اليمينُ بقوله على نحو صريح وواضح وبَعيد عن المداوَرة. إذا أردتَ أن تعرف كيف يفكّر هذا اليسار، فما عليك إلاّ الاستماع إلى أقوال اليمين. اليسار الحربجيّ هنا يقتلك ويقول لك في الآن ذاته: "أنا لست ضدّك. أنا لست ضدّ الشعب الفلسطينيّ"! اليسار الحربجيّ هذا يسلبك، يشرّدك، يضيّق عليك، يَحْكمك ويَحْرمك، ويقول: "لستُ ضدّك! أنا ضدّ قيادتك المتهوّرة المغامِرة المتطرّفة"!
عُوزِي هذا يقول، في أحد البرامج التلفزيونيّة، ما يمكن أن نصوغه على النحو التالي: إسرائيل أخطأت تجاه نفسها حين منحت الفلسطينيّين أن يحكموا في الضفّة والقطاع، وذلك أنّها بهذا منحتهم أملاً. ممنوع أن نمنحهم أملاً. حين منحناهم أملاً، كانت النتيجة صواريخ واعتداءات وحكمًا "حماسيًّا" متطرّفًا. أمّا في ما يتعلّق بالمفاوضات معهم، فينبغي أن يأتوا إليها وقلوبهم خِلْوٌ من أيّ بارقة أمل. ينبغي أن يأتوا إليها صاغرين.
هكذا يفكّر عدوّ الفلسطينيّ. الأمل يحدو بالفلسطينيّين إلى العمل، إلى الفعل، إلى تنغيص حياة الإسرائيليّين. أمّا اليأس، فيسوقهم إلى التسليم والاستسلام والسلام. اليأس طريق إلى السلام، والأمل طريق إلى الحرب!
عُوزِي هذا وأمثاله لا يراهنون إلاّ على يأس العرب. بيأس العرب المطبِق من إحقاق الحقّ، يحقّق عُوزِي ورفاقه ما يبتغون. قيل إنّ اليأس فأس تكسر الرأس؛ لكن من الجدير أحيانًا أن يتساءل المُراهِن: رأس مَن؟ رأس اليائس أم رأس الميئوس منه؟ رأس أحدهما أم رأس كلّ منهما؟ والأسئلة تجرّ أسئلة: اليأس ممّن؟ من الذات؟ من الإخوة؟ من عُوزِي وحكوماته؟
اليأس من الإخوة يفضي إلى الاعتماد على الذات أكثر فأكثر. واليأس من عُوزِي (وأمثالِهِ من أعداء الأمل) قد يتولّد عنه إصرار ينضاف إلى الاعتماد على الذات. أمّا اليأس من الذات، فقد يُفضي إلى ما هو مرعب ومدمّر: مدمّر للعدوّ عَبْر تدمير الذات.

 

سـفّـاحو الـطـفـولـة 


 بتنا نشفق عليهم من أشجارِ ما بذروا؛ فبذور الحقد التي يزرعها احتلالهم لن يتولّد منها سوى أشجار تطرح بغضًا وغضبًا. وأشدّ ما ينبغي أن يخشاه الظالم الواهم، الذي يسعى إلى جعْل الحالِم يتخلّى عن حلمه، هو أن تدور دوائر الأيّام عليه ولا يجد مَن يغفر له ويقبل به؛ فالدهر ذو دُوَلٍ، ودُوَلُ الغرب تهمّها مصالحها أكثر ممّا يهمّها شأن إسرائيل، وتَغيُّر المصالح قد يعقبه تغيّر في المواقف السياسيّة.

 

عـبـلّـين
 21/1/2009