.. وفي العيد الخامس والأربعين لانطلاق الثورة الثانية أو الثالثة أو الرابعة بهدف تحرير الأرض، لم تجد فلسطين ما تحتفل به أو تحتفي به إلا مواكب الشهداء في غزة المحاصرة بدمها.
الدم، الدم، الدم.
نغرق في بحيرة هائلة من دمائنا. نفتح عيوننا على الدم المراق ونغلقها على صور الشهداء ومواكبهم التي يتصدرها من سوف يستشهدون غداً داخل شرنقة الحصار الذي يشارك فيه الأخوة ـ الأعداء، جنباً إلى جنب مع العدو الأصيل والثابت والدائم، الوافد، الغريب، العنصري والمستقوي بخلافاتنا التي تعزز فيه ادعاءه بأنه لا يهزم.
نكتب بالدم. نفتح عيوننا على الدم يغطي أرضنا. يطاردنا الدم فلسطينياً (وعراقياً، ولبنانياً من قبل) إلى أسرّة النوم. نسبح في دمائنا بينما تلاحقنا اتهامات الاحتلال السفاح بالإرهاب.
ترتفع اسوار من الدم بين »دولنا«، سرعان ما تصير جدرانا عازلة بين »شعوبنا« المهددة بالإفقار والإذلال والضياع وإضاعة غدها وحقها في الحياة.
مشكلة غزة، اليوم، وقد خبرناها في لبنان بالأمس، مع »أهلها« قبل ان تكون مع أعدائها... »أهلها« داخل فلسطين ذاتها، ثم في الجوار العربي... حتى لقد انحدرت روابط الأخوة إلى »الانفاق« لكي تستمر وتدوم، في تعبير كاريكاتوري عن وحدة المصير، حتى لو اختلفت المواقف. لا تفتح المعابر، إذا فتحت، إلا للخارجين من فلسطين. ممنوع الدخول، مرحب بالرحيل إلى أي مكان. وفي هذه الساعة لا تفتح المعابر إلا للخارجين من الموت الإسرائيلي إلى الموت العربي.
الموت هو الطائر الوحيد الذي يجوب الأفق المفتوح لطائرات القتل الإسرائيلي.
في فلسطين الثانية يشهقون بكاء على أخوتهم. يبكون عجزهم عن نجدة أخوتهم المهددين بالإبادة الجماعية. من لم تقتله الأباتشي قتلته الأف ،١٦ ومن نجا قتله ذلُ العجز عن إطعام أطفاله وعن تأمين أي مستقبل لهم خارج دائرة الموت... الإسرائيلي.
أما في فلسطين الشتات فيبكون حسرة: ليتنا كنا معكم!
وأما العرب فيتفرجون. تبكي النساء. يشهق الأطفال بالدمع. يدير الرجال وجوههم حتى لا يرى أطفالهم دموعهم. لا يملكون ان يبدلوا هذا الوضع المذل، طالما استمر حكامهم هم حكامهم، وحكام حكامهم هم هم اصحاب الأمر والنهي.
نلتفت إلى عدونا فنراه موحداً. ونراه خلال حربه علينا يحظى بتأييد العالم، بدوله الكبرى ومجلس الأمن، وصولاً إلى العديد من الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربية، التي لم تعد تجمع، بل يراد لها ان تصبح أداة للتفريق الشرعي بين دولها التي تتجرع المهانة كل يوم.
بهتت الأسماء. باخت الألقاب. تهاوت المناصب الكرتونية في طوفان الدم الفلسطيني الذي غطى عيون العالم، والذي وجد بين الدول البعيدة من يستهول إراقته، أكثر مما وجد بين المسؤولين العرب، الذين تصدى من بينهم من يبرر العدوان... بل ويتهم الضحايا بأنهم المتسببون، به والمسؤولون عنه، لأنهم لم يسكتوا عن إذلالهم بحصار الجوع والعطش والحاجة إلى الدواء والمشفى والطبيب... ناهيك بكرامة الانسان!
فوق إسرائيل مظلة دولية تحميها. فوق إسرائيل مظلة عربية تحميها... أما غزة فمكشوفة، منبسطة كراحة الكف، يستطيع الطيار ان يختار أهدافه وفق مزاجه، من يفضل المجازر الجماعية أمامه المدارس ومقار الشرطة والمساجد والدكاكين التي يحتشد أمامها جمهور لا يجد فيها ما يقيه غائلة الجوع... ومن يحب التفرد يختار من شاء ممن تعتبرهم إسرائيل »قادة خطرين« فيصطاده، إذ انه حر الحركة يملك الجو والأرض والبحر وما بينهما.
في إسرائيل يتوحد »الشعب« المجمع من أربع رياح الأرض، بلا رابطة غير الإطار الديني المسيس حتى يصير عقيدة، ويصير دولة يحرسها العالم كله بشرقه وغربه. ثم يعلنها الرئيس الأميركي وفي حضور الرسميين العرب جميعاً دولة لليهود.
أما في فلسطين، فقد حاسبنا »فتح« طويلاً لأنها نبتت من صلب »الاخوان المسلمين«. وليس إلا بعد دهر حتى قبلنا إسلامها بوصفه منطلقاً إيمانياً لحركة تحرير. وها نحن نحاسب »حماس« على إسلامها، ونصدع لأوامر الدولة الدينية في إسرائيل ونبرر لها مرتكزها العقائدي الديني بوصفه شرط حياة، بينما نرفض القاعدة ذاتها لمن يواجهها.
ها هم العرب جميعاً، بدولهم التي ليست دولاً، وتنظيماتهم الرسمية التي ليست أحزاباً، تشارك في إدانة »حماس« بعد تقريعها: لقد نبهناك، لن تستطيعي توريطنا بإسقاط مبادرة السلام وحوار الأديان ومهرجان أنابوليس وتمزيق خريطة الطريق والاستغناء عن خدمات الرباعية،
انقلب العجز الحقيقي الذي كان ستارة تغطي التواطؤ إلى »تحالف استراتيجي« علني مع إسرائيل: وها هي غزة جبهة كونية تلاقى على قتال أهلها معظم دول العالم، تتصدرها بعض الدول العربية، فتبرر الحرب الإسرائيلية وتدين
كل من يتصدى ولو بصدره العاري لنيرانها الحارقة.
لقد تعذر على إسرائيل أن تغرق غزة في البحر، فأغرقتها بدماء أهلها.
وتعذر على السلطات في مصر أن تتبرأ من علاقتها التاريخية بغزة، حدوداً وصلات نسب وارتباطات حياة ومسؤولية مباشرة عن سلامة أهلها فأدانتها بإسقاط »تهدئة الجوع والذل« وتركت لإسرائيل ان تؤدبها.
نزع العرب عن غزة كونها بعض فلسطين. صارت السلطة هوية. نُزعت عنها عروبتها. صارت نبتاً شيطانياً يستحق اللعنة والتأديب.
واختار المثقفون العرب لخطة الإبادة الجماعية التي تتولاها إسرائيل، براً وبحراً وجواً، لمساءلة »حماس« عن أيديولوجيتها، وإدانة مقاتليها قبل استشهادهم وبعد الاستشهاد،
نسي الجميع إن الانقسام الفلسطيني هو بعض الثمار المرة للتخلي العربي،
نسي الجميع أن الإسرائيليين قد توحدوا، من فوق انقاسمهم السياسي، وهم يشنون حربهم على غزة، بتغطية عربية كاملة تسهل لهم انتصاراً مدوياً قد يغطي بعض الجراح الثخينة لهزيمتهم في الحرب على لبنان في تموز ،٢٠٠٦ نتيجة صمود مقاومته المجيدة وسط الاحتضان الشعبي العام.
وليس تجنياً القول إن حجم الدعم العربي المقدم الآن لإسرائيل في غزة يفوق ما قُدم لها خلال حرب تموز على لبنان.
إن شعب فلسطين في غزة يقتل أمام عيوننا جميعاً. لقد قصف الطيران الإسرائيلي حتى »السجن«... ومن آسف ان العصبية الحزبية قد تركت في السجن رفاق سلاح لمحازبي »حماس«.
القتلى في الطرقات. وليس من زقاق في غزة إلا فيه جنازة أو أكثر، لكن الكل يعرفون (وإسرائيل تعرف) ان ليس من خيار آخر أمام الفلسطيني، حيثما وجد، إلا المقاومة. ويعرف الفلسطينيون (ومعهم سائر العرب) ان الصراع مع العدو الإسرائيلي مركب ومعقد، ومكلف في الدماء وفي الاقتصاد وفي الاستقرار وفي الحلم بمستقبل أفضل، لكنه صراع حتمي، لا مفر من خوضه ومن الانتصار فيه.
وأول الطريق استعادة الوحدة الفلسطينية، بأي ثمن.
والوحدة ضمانة ضد الانحراف والتخاذل والمفاوضات المفتوحة على الفراغ.
والوحدة هي التي تنهي »التواطؤ« الذي تتهم به العديد من الدول العربية.
وقدر الفلسطينيين ان يستعيدوا وحدتهم، ومن بعدُ وطنهم، بدمــائهم... وقد برهـــنوا أنهم أسخياء بها.