الرقم تفصيل!.. وعليك أن تكتب فوق صفحة الدم: بلغوا الألف شهيد؟.. لا تقفل الخبر. لا يمكنك أن تقفل خبر القتل الجماعي. سيفتحه الطيران الحربي الإسرائيلي بالقنابل الفوسفورية. ولقد رفعوا اللافتات فوق المقابر في غزة: لا مكان لمزيد من الشهداء! صارت المقابر منازلهم والطرقات. أخيراً باتت لهم عناوين ثابتة! ولكنهم لا يكفون عن التوالد. لكأنهم في تحد دائم مع السفاح الإسرائيلي. كلما اغتال منهم عشرة، مئة، ألف رجل وامرأة، فتى وشيخاً، طفلاً له وجه الصباح، تزايدت أعدادهم ألوفاً. لكأن شهداء فلسطين يتناسلون بعد الغياب. لا يرحل الفلسطينيون فرادى. ولا حساب على المجازر الجماعية. المحاكم الدولية لا تطال الإسرائيليين. يدّعون أنها من أجلهم أنشئت. لقد احتكروا حقوق الضحايا، أمس واليوم وإلى دهر الداهرين.
صار مجلس الأمن دائرة ترخيص بالقتل الجماعي والاحتلال. هذه سيرة فلسطين والاحتلال الإسرائيلي معه (من دون أن ننسى لبنان).. وهذه سيرة العراق والاحتلال الأميركي معه.
مع ذلك يذهب إليه العرب مطاردين بقصورهم وتقصيرهم. يهربون من واجباتهم الطبيعية إليه. يعطيهم إقراراً بعجزهم عن حماية أوطانهم ومواطنيهم. يعطيهم شهادة مصدقة بأنهم لا يحمون شرف الحياة.
أهل النفط يجمعون التبرعات لأهل الدم. ومصر تتقدم بمبادرات. باتت مصر وسيطاً، مجرد وسيط. أين المساحة للوسيط بين السكين والدم؟
المقاومة منقوصة الشرعية لأنها سلطة. ويوم حاولت أن تكون سلطة اكتشفت أن السلطة تلغي المقاومة، فعاشت ممزقة إلى أن أراحتها إسرائيل من سلطة لا تملك من أمرها شيئاً، لتصبح مجرد قناع مشترك للاحتلال وأنظمة الاستسلام؟!
كيف السبيل إلى غزة وبحرها من دماء أهلها وسماؤها حريق ورملها حمم متفجرة، والقذائف والصواريخ والحوامات لها وحدها حرية التجول؟!
غزة هي الاسم الحركي لفلسطين في هذه اللحظة.
من هؤلاء الآتون بعدما قرع جرس الانصراف للثورات والثوار والطامحين إلى التغيير، يرفعون أصواتهم بأنهم يريدون إعادة بناء العالم ليصير مكاناً للحياة؟
لعلهم لا يدركون أن باب التغيير قد أقفل، وأن الإمبراطورية الأميركية، (ومن ضمنها إسرائيل) قد رمت المفاتيح في البحر... لكن مياه بحر غزة من دماء، ولذلك لن تظهر فيه المفاتيح!
.. وليست فلسطين إلا مساحة مشعة من التاريخ، ابتنى أهلها فيها المدن والقرى والدساكر والمزارع، الجامعات والمعاهد والمدارس.
وليس فلسطينياً هو الإنسان الحي. يصير الإنسان فلسطينياً عندما يذوب في أرض وطنه. لذا تتنافس المدن والقرى بالشهداء: مدينة الألف شهيد، مدينة الألفين. ها هي غزة تكاد تبز الجميع، في انتظار حرب إسرائيلية جديدة.
لا اعتراف بالفلسطيني إلا شهيداً.
فلسطين هي العالم كله. لكنها ليست مكاناً لأهلها.
ممنوع على الفلسطيني أن يكون مواطناً في فلسطين. هو ليس كغيره: له أرض، له بيت، له أسرة، له أبناء، له أم وأخت، له أب وجد وشجرة عائلة تمتد عميقاً في التاريخ ألف سنة، ألفي سنة، ثلاثة آلاف سنة أو يزيد.
إنه مطلق! له الدنيا! ولكن ليس له مكان محدد فيها.
والإسرائيلي مطلق! لكن له الأرض وما عليها.. أما من عليها فيجب أن يخلي له أي مكان يطلبه... ويجب أن يخلي ما يجاوره من أرض لكي يعيش بهدوء. فإن رفض مكابر أو مستقو بالثورة أحرقه بالفوسفور.
لكأنما الفلسطيني كالهواء، يعيش في الهواء. له الأوطان جميعاً فضاء للهتاف بحقه. له الأعمدة جميعاً لتعليق صور شهدائه الأبطال. له الشوارع مفتوحة للمناداة بحقوقه في الأرض التي كانت له، ولكن ليس له الحق بأن يستردها ممن أخذها منه بالقوة وطرده ليصير لاجئاً في الريح!
مقتول هو مقتول حيثما حل. بلاده ليست وطنه. لا وطن له إلا دمه. ولا مجال لتحرير الدم إلا بالدم! يصير الوطن بحراً من الدماء. تطلبه بالدم. تعبر إليه بالدم. تبلغه بالدم، وحين تصل إليه تعطيه من دمك ليكون. لا يحيا الوطن الفلسطيني إلا بدماء مواطنيه. إن هم توقفوا عن ضخ شرايينه بالدماء اندثروا. وإن هم أعطوه من دمائهم صار لهم وجود.
من اعترف بسلطتهم الوهمية ألغاهم. ومن اعترف بمقاومتهم حاصر وطنهم (ودولتهم) بالاستحالة.
ليس الفلسطيني إنساناً طبيعياً. لا أحد يعترف به إلا لاجئاً أو شهيداً!
ليس في فلسطين أطفال. يولد الأطفال شهداء، ولو مرجأة مواعيد الاستشهاد. لا نعترف بالأم الفلسطينية إلا ثكلى. لا نعترف بالأب الفلسطيني إلا إذا كان أبناؤه قد سبقوه إلى الشهادة...
لا نعترف بالفلسطيني حياً. لكأنما كتب على الفلسطيني أن يكون شهيداً أو مطارداً بتهمة التنكر لأرضه!
لم تفعل إسرائيل غير تنفيذ المطلب العربي
الرسمي. كانت تسمع نداءاتهم مهموسة أو مشفرة: أن خلصونا! وفهمت أنها إجازة بالقتل، والقتل حتى يستسلم آخر مقاوم في غزة (ومن يفكر بالمقاومة في الضفة الغربية وسائر فلسطين).
باشرت إسرائيل المهمة، فهرب عرب الأنظمة بخيبتهم إلى مرجعياتهم العظمى.
خلعوا الكوفيات الحــمراء والبيـــضاء. ارتــدوا البدلات الأنيقة وعقدوا رطبات العنق آخر موديل حتى تبدى وكأن ليس بينهم عربي واحد.
رطن الخواجات فرطنوا. لم ينتبهوا إلى أن فلسطين تصير بلغات الفرنجة إسرائيل، وأن القدس تصير أورشليم، وأن لا ذكر لغزة هاشم (عم الرسول العربي) في التوراة، حتى لو كان مثواه فيها، وبلا شاهدة.
هم يخافون فلسطين كما الإسرائيلي. ولذا فقد اجتمعوا على غزة اجتماعهم على وليمة الدم. غزة تهددهم جميعاً. إن تراخوا تمددت فصارت فلسطين.. وإذا ما صــارت فلسطين صارت مصر وبلاد الشام جميعاً حتى ما بعد آبار النفط.
هو اليوم السادس عشر من المذبحة وما زال النصر الإسرائيلي بعيداً.
هـا هـــي غزة تصــــير مجموعة من الجــــزر المقطعة بخنادق الدم وآلة القتل الإسرائيلية.
ولكنهم لن يسمحوا أن تتوحد فلسطين عبر غزة، وأن يتوحد العرب عبر فلسطين... مع وعيهم بأن البديل أن يتوحد »العالم« مع إسرائيل، وبهذا يُلغى العرب... فيرتاحون ويريحون،
لن يبقى منهم إلا النفط... وهو ليس لهم لا اليوم ولا غداً.
.. وها هي إسرائيل موحـدة. يتنـافس زعـــماؤهـــا على ملء صناديق الاقتراع بالدم الفلسطيني.
لا يحتاج زعماء إسرائيل إلى تبرير المجزرة. بل إنهم يهينون أي مسؤول دولي يحاول مناقشتهم في نزعتهم الدموية التي تتجاوز الحدود، خصوصاً أن لا خطر جدياً يتهددهم من غزة، ومن حماس في غزة.
يخرج قادة إسرائيل على العالم متباهين بالمجزرة: قتلنا وسنقتل المزيد! نرفض التــــهدئة! لقد قصفناها بكل ما نملك من أسلحة حتى أبدناها. ماذا نريد أفضل مما نواجهه: العرب يتـــآمرون على العرب، الفلسطينيون يشهرون بالفلسطــــينيين، ولا أحد يسألنا عن أعداد الضحايا أو حجم الدمــــــــار في غزة وبيت لاهيا وبيت ياحون والزيتون والشاطئ وخان يونس ورفح والتفاح... وماذا لو صـــار اللاجئون أربع مرات لاجئين للمرة الخامسة؟!
هي الحرب الإسرائيلية السابعة، الثامنة، العاشرة، لا فرق. فإسرائيل والحرب توأمان. كلاهما تلد الأخرى.
ولا أهمـــية للوقت. العرب لا يتعـاملون مع الساعة.
وغزة، في خاتمة المطاف، لا تشكل إلا اثنــــين في المئة من أرض فلسطين! وفلسطين لا تشـــكل أكـــثر من واحد في المئة من مساحة الوطن العربي، وطالما أن لديك المزيد من الأرض والــزمن فـــلا تخف!
وماذا يعني أن يزيد عدد الشهداء (القدامى) ألفاً أو ألفين أو خمسة آلاف؟! إن فلسطين
غزة بداية لتاريخ عربي جديد.
هكذا يقول الدم.
وكـــل من وما فـــوق الأرض العـــربيـــة يهتــز.
وإسرائيل تقاتل معركة أنظمة الهــزيمة جمــيعاً..
وهي حرب ستمتد طويلاً، حتى لو هدأت جبهاتها المفتوحة خلال يوم أو أسبوع، ولأسباب إسرائيلية، أولاً وأخيراً.