ثمة حقبة من العمل الشيوعي في لبنان أَفَلت وانطوت وباتت في ذمة التاريخ بكل رموزها وأشخاصها وأحداثها، ما لا يمكن قبوله أو تصوره حتى الآن بالنسبة للحرس القديم الأمناء على ذلك الشطر الحميم من تاريخهم الشخصي والسياسي. ولعل هذه هي خلفية كتاب »الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث« (دار الساقي ـ ٢٠٠٨)، حيث استعاد كريم مروة سيرة ومواقف ونضالات الأربعة الكبار من رموز الحركة الشيوعية اللبنانية.
استحضر المؤلف سيرة فؤاد الشمالي، عامل التبغ اللبناني، الموزعة حياته بين لبنان وفلسطين ومصر، والاسم الذي تختصر فيه قصة إنسان مثيرة للدهشة والاهتمام لكونها تقترن بتأسيس الحركة الشيوعية في كل من مصر ولبنان مطلع عشرينيات القرن الماضي. وبالفعل فقد ساهم الشمالي في تأسيس الحركة النقابية العمالية في مصر ثم في تأسيس الحزب الشيوعي المصري عام ،١٩٢٣ كما ساهم مع يوسف ابراهيم يزبك في تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني عام ١٩٢٤ وحزب الشعب اللبناني عام .١٩٢٥ ولد الشمالي عام ١٨٩٤ في »سهيلة« كسروان وتلقى دروسه الابتدائية في »بيسان« في فلسطين، ثم انتقل الى القاهرة ليبدأ العمل في السادسة عشرة من عمره في معمل للسجائر في القاهرة ثم في الاسكندرية في ظروف شديدة القسوة. بعد طرده من مصر الى لبنان عام ١٩٢٣ لنشاطاته النقابية الثورية، انخرط في الحركة العمالية، عاملا في أحد معامل التبغ في بكفيا، داعيا العمال الى الانتظام في نقابات ومن ثم التوحد في اتحاد عام. اعتقله الفرنسيون لتأييده الثورة السورية عام ١٩٢٥ وواجه حكم الإعدام وأفرج عنه سنة ١٩٢٨ فبقي أمينا عاما للحزب الشيوعي اللبناني حتى عام .١٩٣٢ وفي الوثائق الصادرة عن الحزب الشيوعي بإشراف الشمالي إصرار على الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار، والالتزام بمصالح العمال والفلاحين والفئات الشعبية وبوحدة العرب القومية بل وحدة الشرق كله في وجه المطامع الامبريالية.
بيد أن ذلك كله لم يشفع لفؤاد الشمالي الذي كان يمتلك ذكاء خارقا وإيمانا عميقا بالاشتراكية فضلا عن تجربة نضالية زاخرة وغنية، فجرت تنحيته ليس فقط عن قيادة الحزب الشيوعي بل من الحزب أساسا بتهمة الخيانة التي لاحقته حتى وفاته عام ١٩٣٩ فلم يدافع عنه أحد من رفاقه سوى يوسف يزبك، وبالكاد ذكره بعضهم وبخجل، لينتهي فقيرا معدما منبوذا ومشهّرا به من قبل هؤلاء، إلا أنه رغم ما لقيه من عقوق وظلم وإجحاف، لم يتنكّر لمبادئه وقناعاته الايديولوجية، بل انصرف بعد تنحيته الى وضع التآليف »البروليتارية« وتعريب ما أمكن منها. وقد عبّر عن محنته بقوله في أحد مؤلفاته بعد إقصائه من الحزب: »ما أنا سوى أحد أفراد الطبقة العاملة المستثمرة. لقيت في حياتي الشيء الكثير من الظلم والاضطهاد. ولا أزال أُلاقي منه ما لا يطاق«. ويذكر سلام الراسي أنه التقاه قبيل رحيله في مطعم شعبي صغير على طريق الشام، وأمامه ورقة وبيده قلم رصاص، وحين سأله »ماذا في مقدورك ان تكتب الآن؟ قال: أكتب رسالة الى الرتيلاء التي أكلها أبناؤها«. وفي المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني عام ١٩٦٨ حرر الشمالي من تهمة الخيانة، وأعيد إليه الاعتبار بوصفه قائدا تاريخيا ووجها مشرقا، وبطلا من أبطال حقبة مضيئة في تاريخ لبنان.
وتناول مروة سيرة فرج الله الحلو للاستفادة من تجربته التي قُمعت في المهد من قبل رفاقه، ومن أهميتها التاريخية بالنسبة للمستقبل من أجل التحرر من كل ما ارتبط بالفكر الماركسي من صنمية حولته الى عقيدة جامدة.
اعتقل الحلو بعد وصول حكومة فيشي الى السلطة في فرنسا وأفرج عنه ليلعب دورا بارزا في معركة الاستقلال. وفي المؤتمر الأول للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان عام ١٩٤٣ انتخب رئيسا للحزب اللبناني الذي صار مركزه من المراكز التي تلتقي فيها الشخصيات السياسية على اختلافها. وفي التقرير الذي قدمه الحلو إلى المؤتمر الأول للحزب إصرار على العلمانية وعلى الالتزام بالعمل من أجل التحرر الوطني، وحض للشيوعيين على دراسة تاريخ شعبهم ووطنهم والاهتمام بجميع خاصياته وآثاره الثقافية والتطلع فضلا عن ذلك الى أمجاد العرب وبطولاتهم. ما يشي بنزعة وطنية قومية في فكر الحلو كانت في أساس التناقض بينه وبين بكداش ومن ورائه العقل السائد في الحركة الشيوعية العربية والعالمية، ما تمثل في تحفظه على قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة عام ١٩٤٧ بموافقة الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي أدى إلى تجريده من مسؤولياته الحزبية، وانتهى بمحاكمته في نهاية الأربعينيات وإرغامه على تقديم نقد ذاتي يدين فيه نفسه ويؤكد تراجعه عن خطه التاريخي.
وإذ عاد الحلو بعد إذعانه وتراجعه، وبعد قيام الوحدة المصرية السورية التي عارضها بكداش، طُلب منه الذهاب الى دمشق حيث تمت تصفيته بصورة وحشية عام .١٩٥٩
أما نقولا شاوي الوجه الآخر البارز في الحركة الشيوعية اللبنانية، فقد كان المكوّن الأساسي لشخصيته، قبل الجانب السياسي، هو الجانب الثقافي الغني والمطعّم بموقف إنساني عميق الأغوار جعل منه واحدا من القياديين الأساسيين في الحزب الشيوعي السوري اللبناني، وكانت كتاباته في »صوت الشعب« قمة في الأدب السياسي، وكذلك كانت تقاريره أمام هيئات الحزب القيادية ذات نكهة ثقافية.
ولد شاوي في طرابلس عام .١٩١٢ وتلقى دروسه الابتدائية والمتوسطة في طرابلس، ودروسه الثانوية في مدرسة الفرير، ثم التحق بالجامعة اليسوعية لدراسة الحقوق لكنه لم يكمل دراسته وانصرف الى العمل الحزبي مع صديقه سليم خياطة أحد أهم مثقفي الحزب في تلك الفترة، حيث شاركه في كتابة مجلة »الدهور« الثقافية. أشرف عام ١٩٣٤ على تحرير جريدة »نضال الشعب« ثم ترأس تحرير »صوت الشعب« الناطقة باسم الحزب، وتعاون مع أنطون ثابت على إصدار مجلة »الطريق« الثقافية التي ظلت تصدر من عام ١٩٤٣ إلى عام .٢٠٠٤
اعتقلته سلطات فيشي عام ١٩٣٩ لمناهضته النازية والفاشية ولم يطلق سراحه إلا عام .١٩٤١ انتخب سكرتيرا للحزب الشيوعي اللبناني عام ،١٩٤٣ وكان أمينا في مواقفه للقيادة السوفياتية، ومن تلك المواقف الانصياع لقرار تقسيم فلسطين الذي ظل يشعر بسببه بفداحة الخطأ الذي ارتكبه بحق فرج الله الحلو إلى حين تبرئة هذا الأخير عام .١٩٦٨
نهج شاوي خطاً جديداً بتقديمه كوادر شابة لتمارس دورها في الحزب، وكان يعتز بذلك ويتعامل مع رفاقه الشباب بثقة كاملة. لكن الدور التغييري الذي لعبه عومل من قبل رفاقه تعاملا غير إنساني ينم عن عدم الوفاء لقائد تاريخي، وقد أورث ذلك لديه شعورا بالغبن والمرارة في سنواته الأخيرة.
وخصص المؤلف حيزا واسعا من كتابه لجورج حاوي الذي ينتمي إلى الجيل الرابع من الشيوعيين، وكانت له سمات خاصة وشخصية من نوع مختلف عما كان سائدا في الحركة الشيوعية في العالم العربي. ولد جورج في بتغرين عام ١٩٣٨ وتلقى دروسه في بلدته ثم في الخنشارة وبيروت، ولم يكمل دراسة الحقوق لينصرف إلى العمل الحزبي ويصبح في منتصف الستينيات من القرن الماضي شخصية مرموقة في قيادة الحزب الشيوعي لعبت دورا أساسيا في إحداث تغيير في نهج الحزب في كل المجالات، وبالأخص في انفصال الحزبين اللبناني والسوري وتحقيق قدر معين من الاستقلال عن القيادة السوفياتية. فكان أن وجّهت إليه تهمة العلاقة مع المخابرات الأميركية، آثر بعدها الابتعاد عن الساحة، ثم ما لبث ان عاد إلى موقعه القيادي ليصبح الأمين العام سنة .١٩٧٩ وقد كان حاوي صاحب المبادرة الأولى في إطلاق المقاومة الوطنية وإصدار بيانها الأول عام ١٩٨٢ ضد الاحتلال الاسرائيلي، مكمّلا بمواقفه الوطنية رسالة الشيوعيين الكبار الذين سبقوه.
ختاما يمكن القول، ان المؤلف أسهم بكتابه في الاضاءة على وجوه بارزة في الحركة الشيوعية اللبنانية بات بعضها مهددا بالنسيان، كما ان مواقف بعضها الآخر وأفكارهم الوطنية لم تصل الى الجيل الجديد بكل ما فيها من ملامح طبعت حقبة بكاملها من تاريخ لبنان الحديث. إلا أننا نسجل على المؤلف:
أ ـ التكرار والاستطراد والاستعادة والاستغراق في تفاصيل وأسماء وأحداث هامشية ترهق القارئ ولا ندري إن كانت لا تزال تهم أحدا عدا زملاء المؤلف من الحرس القديم.
ب ـ التعامل مع محنة فرج الله الحلو بتبسيطية لا تعبّر عن حقيقة الصراع المستتر والمعلن بينه وبين القيادة البكداشية الستالينية. فقد تميز الحلو منذ انضمامه الى الحركة الشيوعية مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي بتوجه وطني وقومي هو في رأينا على صلة بالمرحلة القومية العابرة في تاريخ الحركة الشيوعية العربية التي تعود الى تلك الفترة. وقد استمر الرجل على هذا الخط وصولا إلى رفض تقسيم فلسطين، ثم النقد الذاتي، ومن بعدهما مأساة تصفيته، حتى ليمكن القول انه دفع حياته ثمنا لموقفه الوطني القومي.
ج ـ عدم التركيز بما فيه الكفاية على دور خالد بكداش وخلفياته الايديولوجية المعادية للقومية العربية، في محنة فرج الله الحلو، وقد أكدت الوثائق القديمة والحديثة هذا الدور في أكثر من اتجاه ومناسبة.
د ـ عدم استخراج الاستنتاجات الفلسفية من معاناة القادة الأربعة الكبار كما وصفها في كتابه، والتي تكمن في رأينا في العقل الدوغمائي الأصولي الذي سيطر لوقت طويل على الحركة الشيوعية اللبنانية. هذا العقل الذي لا يقبل الآخر والمختلف وبالتالي الحوار والنقد والمراجعة، والذي من نتائجه البائسة التعامل مع القيادة، فإما أن يكون القائد معصوما بما يقرب من التأليه، او يتفّه ويتم اسقاطه بلا رحمة فتلصق به تهم الخيانة والعمالة والتآمر.
هـ ـ لم يقرأ المؤلف حقيقة الدور الذي لعبه اليهود في استغلال الحركة الاشتراكية اللبنانية الناشئة، ذات التوجهات الانسانية والطبقية والوطنية، بهدف دفعها في اتجاهات تتناقض مع المطامح القومية للشعب اللبناني. فصوّر الانشقاق الذي حصل في صفوف الشيوعيين الأوائل بين لبنانيين وأرمن، بينما الانشقاق الفعلي حصل بين اللبنانيين واليهود الذين لعبوا دورا أساسيا في تشكيل الحزب وشاركوا في لجنته المركزية الأولى، وذلك بعد تأييد الشمالي ويزبك للثورة السورية عام ،١٩٢٥ الأمر الذي عارضه آلياهو تيبر وجوزف برغر ومن ورائهما أبو زيام، وجميع هؤلاء صهاينة أقحاح.
([) كاتب لبناني
كريم مروة ـ »الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث« ـ دار الساقي ـ ٢٠٠٨