منذ بضعة أيام، استيقظت وأنا أرجف من الخوف. تمالكت نفسي ثم بدأت، شيئاً فشيئًا، استعيد تفاصيل الحلم الذي قضّ مضجعي. لقد كان واحدًا من الأحلام التي أطلقت عليها، بيني وبين نفسي، اسم "سلسلة أحلام حرب لبنان الثانية". لقد أثّرت فيّ تلك الحرب تأثيرًا شديدًا، ربما لأنها كانت الحرب الأولى التي عايشتها وشعرت بأخطارها عن قرب. في زمن حرب الخليج الأولى، والتي سقطت فيها بعض الصواريخ في منطقة حيفا، كنت أسكن مع عائلتي في الولايات المتحدة. كنت في النصف الثاني من الكرة الأرضيّة، أحضر الحرب وهي تُبث كفيلم على شاشة التلفاز. خوفي الوحيد يومها كان من أن يحدث مكروه ما لأحد أقربائي أو أصدقائي. خلال حرب لبنان الثانية اختلفت الأمور تمامًا، فقد كنّا، أنا وعائلتي، في بؤرة الخطر، حيث أن الصواريخ كانت تتساقط على مسافات لا تبعد عن بيتنا أكثر من مئات قليلة من الأمتار.
في الحلم الذي أفزعني، كنت مع عائلتي في عمارة شاهقة تقع في وسط مدينة تشبه مدينة حيفا، لكنها أكبر وأضخم منها بكثير. ربما تكون هذه المدينة تشبه ما يمكن أن تكونه حيفا في المستقبل. كنت أنزل درجات تؤدي إلى محطة قطار تقع تحت العمارة، حين سمعت، فجأة، دويّ انفجار قوي، ثم صوت أختي وهي تصرخ وصوت أبي وهو ينادي "هيّا أسرعوا. علينا أن نلحق بالقطار المسافر إلى أمريكا!". في تلك اللحظة، سمعت أصوات مدوية فنظرت من إحدى النوافذ ورأيت سلسلة انفجارات قويّة تنتشر على مساحة شاسعة في منطقة الميناء. أسرعنا في النزول وأخيرًا وصلنا إلى القطار ودخلنا إحدى عرباته وبدأنا نبتعد عن حيفا. نظرت من خلال نافذة القطار، فرأيت طائرات "فانتوم" أمريكيّة تطلق صواريخها ناحية الشمال. سألت أختي: "مع من هذه الطائرات؟"، فأجبتها "إنها مع إسرائيل". بعدها انفجرت عمارة كاملة بالقرب منّا واستيقظت.
بغض النظر عما قد يكون لدى عالم النفس، السيّد فرويد، أو لدى تلاميذه من تفسيرات لحلمي، فإن تفسيري المباشر وغير- السيكولوجي، هو أنني أردت أن أبتعد قدر المستطاع عن الحرب وأخطارها. لكن بالرغم من الخوف والشعور بانعدام السيطرة، فإن ثمّة أمور عديدة في فترة الحرب كانت تثير فيّ الضحك، وكما يقول المثل، فإن شرّ البليّة ما يضحك. من "البلاوي" التي أضحكتني كانت حادثة اصطدام المروحيتين اللتين كانتا تقلان جنودًا إسرائيليين إلى داخل الأراضي اللبنانيّة، والتي عرفت بكارثة المروحيّات الثانية. وعلى الأغلب فإن هذه الحادثة سميت بالثانية لأنها سُبِقت بكارثة تشبهها. ما أظنه قد حدث وسبّب الاصطدام، هو أن كل واحد من الطيّاريّن، من ذوي العقليّة العسكريّة العنيفة والرجوليّة لم يقدر أن يتنازل ويحيد عن مساره لصالح الطيّار الآخر. أنا أتخيّل أحدهم يقول: "هيّا آفي، حِد عن طريقي!!"، في حين يجيب الطيّار الآخر: "أنا أحيد؟! لم لا تحيد حضرتـ..."، ثم يصطدمان قبل أن يٌكمل الأخير جملته. وبما أن هذا الحادث لم يكن الأول، كما أنه لن يكون الأخير، فإني أتوقع أن تحدث يومًا ما "كارثة الثلاث مروحيّات".
أمر آخر أضحكني في تلك الأيام، كان المبالغة التي أبداها مجتمعنا العربي في الإكثار من مظاهر الشجاعة. يومها كُنتَ ترى العديد من عرب حيفا وهم يقفون أو يجلسون في شرفات بيوتهم، يشهدون سقوط الصواريخ من حولهم ويتضاحكون، حتّى أن بعضهم كانوا يتفرجون على الحرب الدائرة حولهم وهم يشوون اللحوم ويأكلون ويشربون!
من ضمن "سلسلة أحلام حرب لبنان الثانية" هنالك حلم آخر يراودني من حين لحين. أنا أدعوه "الحلم الشجاع"، وفيه أبقى في شرفة بيتي، مثل جيراني الذين حدثتكم عنهم، أشعل سيجارة وأشرب النبيذ وأنا أراقب سقوط الصواريخ والدمار الذي تُحدثه، ثم أبتسم وأنا أتلذذ بقوّة وجمال التدمير الحاصل.
ما من شكّ أن الدمار يحمل في طيّاته، إلى جانب الشعور بانعدام السيطرة، الكثير من القوّة والجمال والشعور بالأهميّة. ومع هذا، فإن "سلسلة أحلام حرب لبنان الثانية" لم تكن في المحصلة سلسلة شيقة وجديرة بالمشاهدة، بل بالعكس، فإنها قد سببت لي تعبًا نفسيّا. لقد سمعت في حينه، في إحدى محطّات الراديو بالعبريّة، عن منظمة تقوم بتقديم المعونة النفسيّة لكل من يعاني من كوابيس سببتها الحرب. لقد راودتني فكرة الاتصال بهذه المنظمة، لكني أحجمت عن ذلك، فأنا في نهاية المطاف واحدٌ من أبناء الأمّة العربيّة الصامدة، ولا يليق بي أبدًا أن أبدو في مظهر الجبان الذي يخاف من بضعة صواريخ تنفجر تحت أقدامه!