news

"ألحقيقة أولاً" وبعدها أهلاً بالمقصلة

ردا على مقالي د. إبراهيم طه في "الإتحاد" و"كل العرب"


صديقي وأستاذي الدكتور إبراهيم طه حفظه الله: قرأت مقاليك: "الصحة أولاً" المنشور في صحيفة "الإتحاد" يوم الخميس 6/11/2008، و "الثقافة والأيديولوجيا والعائلية" المنشور في صحيفة "كل العرب" يوم الجمعة 9/1/2009، قرأتهما باهتمام بالغ يدفعني لذلك أكثر من سبب. وقد رأيت في أولهما تمهيدا وفي ثانيهما امتدادا وتوسيعا لمواجهة لا مكان لها بيننا. وأصدقك القول انني رأيت فيهما إهانة لي على المستوى الشخصي وعلى كافة مستويات انتمائي، فأنا من الجبهة لي ما لها وعليّ ما عليها. أنت صديقي وأستاذي الذي أجِلّ وأحترم، ولستَ بحاجة لشهادتي لإظهار مكانتك أو رفعها في مجتمعك أو دائرة عملك. لقد احترمت، فعلا، خيارك البقاء في برجك العاجي، "برج إشكول"، الذي لا يشرّفك وجودك فيه بل هو الذي يشرف بك. إحترمت بقاءك بعيدا عن ألاعيب أهل السياسة وانزلاقاتهم وحماقاتهم أحيانا. لقد آمنت دائما أنّ لكلّ مكانه الذي يرابط فيه، وليس عيبا أن ينحصر عطاؤه فيه ويشحّ أو حتى ينعدم في غيره، فلكلّ قدراته وإمكانات عطائه. ولكن، ليست السياسة كلّها ألاعيب ولا منزلقات ولا حماقات، وليس كل من عمل في السياسة يتلاعب أو يتحامق أو ينزلق. وأنت تدرك، أكثر منّي، بحكم درايتك الواعية وثقافتك الواسعة، كم من الجهد يحتاجه من يتعامل بالسياسة هذه الأيام كي لا ينزلق؟ أنا أعترف أنّ الجبهة والجبهويين في كابول يجلسون، ليس على كومة من الأخطاء بل وبدون مبالغة، على جبل. ولكنها أخطاء هم تضرروا منها ودفعوا وما زالوا يدفعون ثمنها، ولم يتضرّر منها أحد غيرهم. وهي بالتالي أخطاء من يعملون أو على أقلّ تقدير يحاولون، أمّا أنهم لا ينجحون في كثير من أعمالهم، فالأمر متعلق ليس بعجزهم فقط وإنما بـ"إرادة" من يدّعون في العلن أنهم يشدّون على أيديهم وهم في السرّ يقومون الليل ويضعون أيديهم بيد الشيطان بغية تعجيزهم وإفشالهم. ومن مثلك يعرف أنهم كثر. وفي تقديري، نحن حتى الآن على الأقل لم نخطئ فيما أظهرت في مقاليك، أنّه يؤلمك. وآمل أنني أفهمك جيدا، وبالطبع أنا أتفهم ما لديك من ألم، وأنت تعلم علم اليقين أنّ ما يؤلمك يؤلمني، وما دام الألم واحدا، أعتقد أنّ كلّ ما في الأمر وكما يبدو لي أن تشخيصنا للمرض جاء مختلفا فوصَفَ له كل منّا وصفة مختلفة، وهذا ليس عيبا ولا سببا كافيا ليجعلنا، أنت ونحن، نذهب كلاً في طريق. أنت خير من يعلم أن اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية. ولذا، آلمني كثيرا تحوّلك وأن يساهم فكرك الواعي وقلمك النظيف في الحملة علينا دعما لحملات لا تهدأ لا قبل الانتخابات ولا بعدها. وقد أثار مقالاك استغرابي الشديد، إذ لا أعلم، إلا ما صرحت به فيهما، ما هو الدافع الحقيقي وراء هذا الموقف وهذه الحملة. أما كان من الأجدر بك أن تلفت انتباهنا بطريقة أخرى، وأنت تعلم مدى حبنا لك وتقديرنا لشخصك ورأيك، إلى خطأ ما وقعنا فيه فلربما استطعنا بتوجيهك وحكمتك أن نتفادى ذلك الخطأ؟ أم أن الخطأ هو تلك الخطيئة الأزلية الأبدية التي وقع فيها كل من لم نقف معهم أو مع أقاربهم بغضّ النظر عما إذا كانوا يستحقّون أم لا، لأنّ الحكم في أولويتهم بوقوفنا معهم وتأييدنا لهم هو فقط انتماؤهم إلى عائلاتهم، وأنت لم تعوّدنا سابقا أن لديك مثل هذا الفكر؟


إنّ تلك العائلية التي جردت قلمك للدفاع عنها، العائلية الطبيعية التي خلقها الله وأمرنا فيها بصلة الرحم وحسن المعشر، وأمرنا الرسول فيها أن ننصر أخانا ظالما حتى يرتدع عن ظلمه أو مظلوما حتى ننصفه، هي ذاتها التي دافعنا عنها وما زلنا ندافع. ولكنك تعرف حقّ المعرفة أن العائلية بهذا المعنى ليست هي المتأصلة في عائلاتنا وأفرادها هذه الأيام، وإنّما هي تلك التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من دعا إلى عصبية". وإذا نظرنا إلى حالنا من خلال هذا التشخيص سنجد أن كلّنا ليس من كلّنا، ولو نظر الرسول إلى وضعنا هذا في يومنا هذا في بلدنا هذا، لأعاد جميع حساباته.
وإذا لم يكن هذا هو السبب الذي دفعك، فعلى أقل تقدير، قد أسأت توقيت نشر المقال الثاني على الأقل، لأن كل من يقرأ المقال، خاصة في كابول، سوف يربط نشره بانتخابات كابول المحلية وبانتمائك العائلي لمرشح عائلتك، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا الربط يصيب كبد الحقيقة أو لا، أو كنت أنت محقّا فيما تقوله في مقالك أو لا.
وأثار دهشتي أيضا إقحامك للجغرافيا معتمدا على تقسيمها بين بعيد وقريب وأنت تعلم جيدا أننا عملنا لعشرات من السنين ونجحنا في جعل هذه الجغرافيا واحدة لا تحتمل التقسيم وإن كنا لم نحقّق الإجماع في ذلك. يثبت ذلك أنّ أصحاب الجغرافيتين، القريبة والبعيدة، توزعوا في المرحلة الثانية من الانتخابات وبشكل متساوٍ تقريبا بين المرشحيْن المتنافسيْن. وفي الحقيقة، كنت أظنّ أنك على وعي تام بأن المعركة الانتخابية في كابول، هذه المرة بالذات، لم يحكمها أيّ أساس أو أيّ صراع، لا جغرافي ولا تاريخي، ولا حتى سياسي، إنما الأساس لها، والصراع الحقيقي الذي حكمها هو الأخلاقي، خاصة في مرحلتها الثانية، وإن كان هذا الأمر ينسحب أيضا بشكل أو بآخر على مرحلتها الأولى كذلك، وليس ذا موضعا مناسبا للتفصيل.
نحن في جبهة كابول نعرف ما يدور في قريتنا على كل المستويات وخاصة على المستويين: السياسي والاجتماعي وما يرافقهما من ملابسات وتعقيدات وانفعالات كاذبة في كثير من الأحيان. ليس أكيدا ولكن ربما نعرف ذلك أكثر منك، لأننا نعرف، وأنا أعني ما أقول تماما، أين وفي أية أهداف نبيلة يُصرَف وقتك الثمين. وأنت تعرف جيدا أن ليس كل ما يُعرف يقال. وكنا نحسدك فعلا على النعمة التي منّ الله بها عليك، نعمة أبراجك وراحتك النفسية فيها، ونتمنى لو كنا قادرين على بناء برج صغير لنا يحمينا، كما أسلفت من ألاعيب أهل السياسة وحماقاتهم وانزلاقاتهم. ولكنه على ما يبدو، قدرنا. لذا من حقّنا الآن أن نستغرب موقفك وحملتك علينا وأن نتساءل: ما هو الدافع الحقيقي وراء هذا الموقف وهذه الحملة؟ من حقّنا أن نتساءل، خصوصا أننا لا نشكك، ولا نريد، بأخلاقياتك وخاصة نزاهتك في البحث عن الحقيقة! فما الذي جرى؟!
نحن نرى، ومن باب احترامنا لك وحرصنا عليك، أنّك زججت بنفسك، بشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار، في آتون معركة محسومة وبركان مشرف على الخمود، فواعجبا ما الدافع؟ هل هي مقولة "لكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة"؟ فأنت، والله، عالم وجواد وصارم. فإذا كان الأمر كذلك فنحن نتقبّله إذ أنّك تعلم أننا خير من يؤمن أنّنا جميعا بشر وكلنا نخطئ، وأنت كذلك، رغم ما نعهده فيك من الحكمة والدراية، لست من المعصومين.
تقول في مقالك الثاني، وأنا الآن أقتبس "آمنت لسذاجتي، التي يعيبونها عليّ، أنّ الجبهة التي رفعت شعار "التعليم أولا" ستتعالى على حساباتها الصغيرة وستدعم الأصدق والأقدر على تحقيق شعارها هذا". هذا في رأيي اعتراف صريح منك أنك كنت تريدنا أن نؤيّد قريبك، إبن خالك، لا لأنه قريبك وابن خالك، ولكن لأنه الأصدق والأقدر، أليس كذلك؟ بربك، من الذي سوف يفهم أو يتفهّم، هذه المقولة، وخاصة في كابول وفي هذا التوقيت، بهذا الشكل؟ ولا بدّ أنّك سمعتَ كما سمعتُ أنا في الأيام القليلة الماضية أكثر من متسائل، جبهويّ وغير جبهويّ يسأل أو يتساءل: لماذا الآن؟ وإذا افترضنا جدلا أنّ الصدق والقدرة هما الدافع الحقيقي، وأنّه ليس مهمّا كيف يفهم الناس الذين تكتب لهم هذا الأمر؟ نتساءل: ما العيب في أن ترى رأيا ونرى غيره حتى وإن كنا المخطئين؟ هل أبلغتنا رأيك في مرحلة ما بطريقة ما ورفضنا سماعه أو على أقلّ تقدير نقاشك فيه؟ وهنا أذكرك، لحرصي عليك وأنت تعلم جيدا أنني أصدقك وأصدّقك، أذكرك أن ليس كل ما يعرف يقال، أو لأكون دقيقا أكثر، ليس كل ما يسمع يقال! وإذا سمعنا ولم نقل فوالله من منطلق الحرص عليك على كافة انتماءاتك. لذا، أعترف مرة أخرى أنّ المفاجأة بما نشرته قد زعزعتني.
لقد اتهمتنا في أكثر من مكان بما ليس فينا: الحقد والجبن والمقايضة والتنازل عن القرار والمشيئة. يا للعجب، هل سقطنا كلّ هذا السقوط دفعة واحدة وفي أقلّ من أسبوعين؟! إنّ هذا التحول، كما أفهم من مقالك الثاني، طرأ عندك بعدما علمت أننا "تنازلنا عن قراراتنا" وأننا سندعم المرشح الآخر وليس مرشحك/قريبك الذي هو الأصدق والاقدر في رأيك، إذ لو دعمنا مرشحك لما وقفت منا هذا الموقف. هذا ما أفهمه، وسأقول لك كيف قررت أننا "تنازلنا عن قراراتنا"؟  لقد بلغك، من قناة أو أخرى، على لسان بعض الجبهويين أننا سندعم مرشحك، وهذا صحيح، ولكنّه كان رأيهم وليس قرار الجبهة. وكانت لدينا أصوات كهذه، وأخرى تطالب بالامتناع عن التصويت، وأخرى تطالب بإعطاء أعضاء الجبهة ومؤيّديها حرية التصويت. ولكنّه الحسم الدمقراطي ولا شيء غيره كان سيد قرارنا، الذهاب إلى المرشح الآخر. ولا أفشي سرا إذا قلت لك ان أصحاب الأصوات التي دعت داخل الجبهة لمرشحكم كانوا  أكثر المتحمسين لهذا القرار. من حقّك أن تشكّ فيما أقول، ولكن بإمكانك أن تسأل أعضاء وفدكم المفاوض، ونحن لا نعتبر مرشحكم عضوا في الوفد، لأسباب يعلمها ويعلمونها، إسألهم، ليس لماذا غيّرت الجبهة قرارها؟ فالجبهة لم تأخذ إلا قرارا واحدا، المرشح الآخر، ولم تغيّره. ولكن أسالهم: لماذا غيّر أصحاب الأصوات الداعية لمرشحكم في الجبهة رأيهم؟ ولأنه يهمني جدا أن أصدقك القول، أتراجع وأقول لك: إربأ بنفسك عن سؤالهم! فأنا لا أشكّ بل أنا واثق كلّ الثقة أنّهم لن يصدقوك القول.
وعلى فكرة، ليس لدينا، لا كجبهة ولا كأشخاص، أيّ شيء ضد مرشحكم، لا على المستوى الشخصي ولا الأخلاقى. العكس تماما هو الصحيح، فأنا أشهد أنه خلوق قريب إلى القلب، ونحترمه كما نحترم كل أهل جغرافيتنا التي لا تقبل التقسيم. أمّا أن يكون هو الأصدق والأقدر على تحقيق شعارنا "التعليم أولا" وغيره من شعاراتنا فهذا ما نختلف فيه معك، وخلاف الرأي، كما أسلفنا وأسلف أسلافنا، لا يفسد للودّ قضية.
صديقي وأستاذي، سوف أكتفي بهذا القدر، وكنت أستطيع أن أناقشك في كل كلمة كتبتها، وأنا مستعدّ لذلك لاحقا في أقرب لقاء لنا.  أكتفي لأنّ ردّي هذا جاء من منطلق احترامي لك لأنّك لستَ ممن لا يردّ عليهم، ولستَ ممن أستطيع أنا أو يستطيع غيري أن يتجاهلهم. ولنتابع نقاشنا أرجو ان تقبل دعوتي المتواضعة إلى جلسة ودّية هادئة كالتي عهدناها بيننا، ولن أعارض عندها أن ننشر غسيلنا مهما تراكمت أوساخه، ولكن لتطهره الشمس فعلا، لا لتحرقه وتحرقنا معه. ولن أعارض أيضا في أن تشحذ مقصلتك وتعملها في رقابنا إذا كانت الحقيقة في جانبك، أمّا إذا كانت في جانبنا فلن نطالبك بأكثر من أن تستغفر ربك ليتجاوز عن خطئك إنه غفور رحيم. إذًا، "الحقيقة أولا" وبعدها أهلا بالمقصلة.
وأختم بالذي هو خير وبتمنياتي الصادقة لك بدوام الصحّة والعطاء.

(كابول)