"إنني أتحدث مع سكان سديروت وقد عادت الحياة إلى وجوههم جميعا" تبجح فوآد (بن إلعيزر) أمام رازي بركائي (مقدم برنامج إذاعي) في اليوم الثاني للحرب. "كلما كانت الضربة ثقيلة أكثر- كلما اتسع القلب أكثر". ولكن فوآد ليس الجميع، ليس الجميع. وحتى إن كنت صوتا وحيدا في سديروت وأنا لست كذلك- من اللائق أن أسمع.
لا باسمي ولا من أجلي خرجتم إلى هذه الحرب. حمام الدم الدائر منذ أسبوعين في غزة ليس باسمي ولا من أجل أمني. البيوت هُدمت، المدارس فجِّرت والألوف هُجِّروا ثانية لا باسمي ولا من أجل أمني. في غزة لا وقت لطقوس الدفن. والجثث تدس أزواجا أزواجا إلى خلايا التبريد لكثرتها. هنا ملقاة جثث رجال وأطفال والمراسلون النشطون بين تكتيك التعليل مقابل "الصور التي تتحدث عن ذاتها". ما الذي يمكن تعليله. قولوا لي؟ ما الذي يمكن شرحه؟
لا أمنا ولا هدوءا شريت لنفسي في هذه الحرب. بعد تهدئة ناجعة جدا مكنتنا جميعا من الشفاء نفسيا وحسيا أعادوني قادتنا إلى نفس المكان المشروخ والمكتظ بالمخاوف. إلى نفس التجربة المهينة من الركض الهلع إلى الملاجئ.
لا تخطئوا الظن بي. حماس هو منظمة إرهاب سيئة وبشعة. ليس ضدنا فقط. أولا وقبل كل شيء لمواطنيه. ولكن ما بعد هذه القيادة اللعينة هنالك حياة بشر. بجهد كبير يبني المواطنون البسطاء من طرفي المتراس جسورا صغيرة لعلاقات انسانية. هذا ما قامت به مجموعة "صوت آخر" في سديروت والمنطقة المحيطة بغزة والتي أعد إحدى عضواتها، عندما أرادت شق مسار انساني إلى قلوب جيرانها. في حين حظينا نحن بتهدئة من خمسة أشهر بقوا هم تحت عبئ الحصار. شاب صغير قال لنا أنه لا يخطط أن يتزوج وينجب الأطفال إلى العالم، لأنه لا مستقبل للأطفال في غزة. في ضربة طائرة واحدة ترسب هذه المحاولات باليأس والدم.
إنني أخاف القسام. منذ اندلاع الحرب تقريبا لم أجرؤ على تجاوز حدود الشارع. لكن يخيفني أكثر النقاش العام والاعلامي المتراص والمتبجح غير القابل للاختراق. يخيفني أن يهاجَم رفيقي في "صوت آخر" من قبل أحد سكان سديروت في حين كانت تجرى معه مقابلة صحفية وكان يعبر عن موقف ناقد للحرب، ثم يتلقى محادثات تلفونية مجهولة المصدر ويخاف العودة إلى سيارته. يخيفني ضيق المساحة للصوت الآخر، وكم يصعب التعبير عنه من هنا. إنني مستعدة لدفع ثمن العزلة ولكن ليس ثمن الخوف.
تخيفني رؤية مدينتي تلتف بالضوء وترتدي حلة العيد وتتزين بأعلام اسرائيل وجوقات المشجعين توزع الورود في الشارع والناس يصفرون فرحا على كل قذيفة من طن تقذف على جيراننا. يخيفني المواطن الذي يعترف بوجه مشع أنه لم يحضر ابدا "كونسيرت" لكن قنابل الجيش على سكان غزة هي الموسيقى الأكثر برية التي سمعها بحياته. يخيفني المحاوِر المتكبر الذي لا يتزحزح عن أقواله ولو بملمتر.
يخيفني أن من تحت غطاء الكلمات هنالك جثث للأطفال، شوهت بشكل خاص من أجلنا كخدمة للجمهور، يخيفني
اننا نفقد القدرة الانسانية على رؤية الطرف الآخر، على الاحساس، على الانفعال على الشعور بالتعاطف.
تحت كلمة الشيفرة "حماس" ينتج الاعلام لنا عفريتا مظلما لا وجه له ولا جسم أو صوت، مليون ونصف المليون انسان بلا إسم!
تيار مظلم وعميق من العنف يتغلغل إلى المجتمع الاسرائيلي كالمرض القاسي، وهو يتفشى من حرب إلى حرب. هذا نوع من أنواع نشوة الحرب والرغبة بالانتقام وسكر القوة وقبر الوصية اليهودية الأصيلة "بوقوع أعدائك- لا تفرح". هذه قيمة تلوثت جدا حتى أن أي غسيل لها لن يزيل البقع. هذه ديمقراطية آلية للانكسار وبها عليك أن تزن كل كلمة قبل أن تضطر إلى دفع الثمن.
المرة الأولى التي شعرت بها حقا الدولة تدافع عني حقا، كانت عندما تم التوصل إلى اتفاق لوقف النار. لا مسؤولية لي عن حماس ولكنني أسأل قادتنا: هل قلبتم كل الحجارة للتوصل إلى استمرار التهدئة؟ لتمديد وقف إطلاق النار؟ للوصول إلى اتفاقية بعيد الأمد؟ لإيجاد حل لمسألة المعابر والحصار قبل هذه العربدة؟
هل سافرتم إلى آخر العالم من أجل البحث عن وسطاء ملائمين؟ ولماذا لوحتم دون تلمظ بالمبادرة الفرنسية لوقف النار بعد أن نشبت الحرب؟ ولماذا ما زلتم حتى الآن ترفضون كل اقتراح ممكن للتفاوض؟ ألم نصل إلى كمية "القسام" التي اعتدنا على تلقيها؟ ألم نتوصل إلى كمية الأطفال الفلسطينيين القتلى التي يستعد العالم على استيعابها.
ومن يضمن لنا أن بالامكان حقا تدمير حماس؟ الم نجرب هذا التمرين في مكان آخر؟ ومن سيحل مكانه؟ منظمات أصولية عالمية؟ وكيف ستنبت من بين الخرابات، الجوع، البرد، الأموت، أصوات معتدلة للسلام؟ إلى أين تقودوننا؟ أي مستقبل تضمنونه لنا هنا في سديروت؟
وكم من الوقت ستظلون تعلقون على اكتافنا المحنية حقيبة أكاذيبكم المكتظة بشكل متعب بكل الكيليشيهات: ليس هنالك مع من نتحدث، لا مفر من الحرب، اتركوا الجيش ينهي "العمل"، ضربة واحدة وانتى الأمر، القضاء على حماس ومن لا يريد السلام. كذب القوة وخرافة المزيد من القوة، كمرشد وحيد لحل مشاكل المنطقة.
وكيف أن كل لقاء خاطف مع ممثلي "صوت آخر" يبدأ وينتهي بأسئلة مستهترة للصحافي المناوب "ألا تعتقدون أنكم ساذجون؟". ما الذي حدث ليكون خيار الحوار وإدارة المفاوضات والرنو إلى الاتفاقيات والتفاهمات حتى مع أسوأ أعدائنا قد تحول إلى كلمة مرادفة للسذاجة؟ لكن خيار القوة والحرب هو دائما الخيار الحكيم والمنطقي؟ ثماني سنوات ودائرة الدم لم تعلمنا شيئا عن سذاجة قوة الذراع؟ الجيش كسح واغتال وأطلق النار ومسح وضرب وأخطأ وضجّ وما الذي حصلنا عليه بالمقابل؟ سؤال استنكاري.
من الصعب العيش في سديروت هذه الأيام. في الليل الجيش يسحق البنى التحتية والبشر ويهز جدران المنازل. في الصباح نتلقى القسام، كل مرة تكون أذكى. الانسان الذي يخرج إلى عمله في الفجر لا يعلم إن كان سيجد بيته كاملا في المساء. في الظهر ندفن خيرة أبنائنا ممن دفعوا حياتهم ثمنا لحرب "عادلة" أخرى. قبل الغروب، ننجح بصعوبة كبيرة الاتصال بأصدقائنا القانطين في غزة. لا كهرباء، لا ماء، لا غاز، لا أكل، لا مكان للجوء إليه.
وفقط كلمات ن. إبنة الـ 14 التي فجرت مدرستها وقتلت ابنة صفها، وكتبت لنا بلغة انجليزية جيدة رسالة الكترونية تمكنت أمها من إيصالها إلينا بصعوبة "ساعدونا، إننا بشر"، تظل ترافقني. طن من الرصاص الصلب يربض على قلبي والقلب أصغر من أن يحتمل.