سيسجل التاريخ يوما بالحبر الاسود الغامق يوم السابع والعشرين من شهر كانون الاول الحالي المجزرة الدموية الهمجية التي ارتكبها ايتام هولاكو التتار والمغول ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في الكتاب الاسود المخضب في الدماء الى جانب سلسلة من الجرائم الحربية والمجازر التي ارتكبتها الصهيونية الحاكمة عبر حكومات اسرائيل المتعاقبة من مجازر التدمير والقتل والتهجير ابان النكبة الكبرى في الثمانية والاربعين وما رافقها من مجازر وحشية ضد العرب الفلسطينيين في دير ياسين وعيلبون والطنطورة والبروة ومجد الكروم وغيرها، الى جانب مجازر كفر قاسم ويوم الارض الخالد ويوم الروحة ومجزرة مخيم جنين ونابلس ووصول انياب المجزرة السامة الى القضاء على حياة الرئيس الفلسطيني المنتخب وقائد المسيرة الكفاحية التحررية للشعب العربي الفلسطيني خالد الذكر الرئيس ياسر عرفات (ابو عمار). فحقيقة هي يجب ان لا تغيب عن بالنا ان الدعم الامبريالي والتواطؤ الرجعي العربي اللذين ساعدا على قيام دولة اسرائيل على اطلال نكبة الشعب العربي الفلسطيني لم يكن الهدف من اقامتها زرع عنصر للاستقرار والامن والتعايش والجيرة الحسنة مع الشعب العربي الفلسطيني وبقية شعوب وبلدان العالم والمنطقة، بل كان الهدف الاستراتيجي المركزي ان تكون اسرائيل مخفرا استراتيجيا اماميا للعدوان الامبريالي والدفاع عن مصالحه في المنطقة ضد حركات التحرر الوطني والانظمة المناهضة للهيمنة الامبريالية واحتكاراتها في المنطقة. فخلال اكثر من ستين سنة على قيامها كانت اسرائيل الرسمية عامل التوتر والعدوان والاحتلال وشن الحروب التوسعية على حساب الشعوب العربية وافشال وعرقلة مختلف الجهود المبذولة والمبادرات والخطط العديدة لتسوية سلمية عادلة للصراع الاسرائيلي – الفلسطيني – العربي وفقا لقرارات الشرعية الدولية فبالدعم الامريكي المادي والسياسي والعسكري كانت تشحن اسرائيل العدوان بالموقف البلطجي العربيد المعادي للتسوية السياسية العادلة.
فالمجزرة الوحشية التي ارتكبها همج البشر من المحتلين وطائراتهم الامريكية وبوارجهم الحربية وحصدت المئات من الارواح من الشهداء والجرحى من رجال الشرطة ومن المدنيين الابرياء من نساء واطفال وشيوخ وشباب في عمر الورد، مجزرة دمرت جميع مقار الامن والشرطة الفلسطينية في القطاع، هذه المجزرة لم تأت من فراغ واطلاق صواريخ القسام على بلدات الجنوب الاسرائيلي ليست الذريعة الحقيقية ولا العامل الاساسي لشن ما يشبه حرب الابادة على القطاع، فالعامل المركزي والهدف المركزي وتحت قناع محاربة الارهاب الفلسطيني في قطاع "حماسستان" بغزة انجاز ما فشل في انجازه الحصار التجويعي على قطاع غزة بكسر شوكة تمسك الفلسطينيين بثوابت حقوق شعبهم الوطنية. فشن حرب الابادة ومجزرة القتل الجماعي، الدوس على القانون الدولي وارتكاب جرائم حرب تعيد الى الاذهان جرائم الوحوش النازيين في البلدان المحتلة شن حرب الابادة وتوقيتها الزمني يعتبر جزءا عضويا من مؤامرة سافرة منسقة خيوطها الاجرامية مع اوساط دولية ومع انظمة عربية متواطئة، مؤامرة لدفن الحق الفلسطيني المشروع ومصادرة حقه الوطني في الدولة المستقلة على كامل التراب الفلسطيني المحتل منذ السبعة والستين وعاصمتها القدس الشرقية وضمان حق العودة.
لقد استغلت اسرائيل العدوان والكوارث عدة ظروف وعوامل مؤاتية تخدم مصلحة سياستها العدوانية واستخدمتها كقاعدة خلفية تساند وتدعم لجوءها الى شن حرب الابادة والمجزرة. واهم هذه العوامل والظروف ما يلي:
* اولا استغلال الانقسام الفلسطيني المأساوي بين فتح وحماس، بين الضفة والقطاع لاختراق الساحة الفلسطينية من خلال النشاط والضغط الاسرائيلي – الامريكي لافشال وفاق وطني فلسطيني يعيد اللحمة الى وحدة الصف الوطنية الفلسطينية. فرغم الهدنة او التهدئة المؤقتة التي وافقت عليها جميع الفصائل الفلسطينية والتي تمت بوساطة مصرية، فان المحتل الاسرائيلي يرفض ان تشمل التهدئة الضفة الغربية ولم يلتزم بمستحقات التهدئة اذ فرض خلال ستة اشهر الحصار الاقتصادي والتجويعي واغلاق جميع المعابر اضافة الى اغلاق معبر رفح ومنع وصول الاغذية والادوية والمحروقات والكهرباء الى مليون ونصف مليون فلسطيني يعانون من الجوع والفقر والامراض في معسكر الاعتقال الجماعي. وحاول المجرم المحتل الادعاء انه يمارس بحصارة حربا ضد سلطة حماس الارهابية وانه يساعد "سلطة رام الله" والرئيس الفلسطيني محمود عباس في الصراع للاطاحة بنظام حماس في القطاع. وعمليا فالمحتل يستغل الانقسام الفلسطيني لكسر شوكة المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة ولمسابقة الزمن في توسيع عمليات الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية. فهدف المحتل منع اقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ولهذا ليس صدفة ان المفاوضات الاسرائيلية – الفلسطينية بعد مؤتمر انابوليس حول الحل الدائم والتوصل الى حل الدولتين كانت مفاوضات "طحن الماء" وتضييع وقت وفي وقت يواصل فيه المحتل حصاره وعمليات الاستيطان في الضفة وانتهت سنة الفين وثمانية بدون انجاز رؤية بوش حول الدولتين بل بانجاز رؤيته وايتام استراتيجيته العدوانية بارتكاب المجزرة الهمجية.
* ثانيا: لقد نجحت استراتيجية العدوان الامريكية – الاسرائيلية في تسويق مقياس جديد لطابع الانقسامات والصراع في عالمنا وفي منطقتنا، ففي منطقتنا قسمت البلدان والانظمة والحركات والاحزاب الى مجموعتين، مجموعة "الانظمة المعتدلة" وهي الانظمة العربية وغير العربية المدجنة امريكيا – اسرائيليا وتخدم الاستراتيجية الامريكية في المنطقة وتدخل في هذه المجموعة مصر والمغرب والاردن والسعودية ودول الخليج وموريتانيا، ومجموعة الدول والانظمة المارقة وهي الانظمة "الارهابية" والتي تؤوي الارهابيين او تقدم المساعدة لهم، أي البلدان المناهضة الاستراتيجية الهيمنة الامريكية – الاسرائيلية في المنطقة وتشمل ايران وسوريا وحزب الله وحماس والجهاد الاسلامي. ولهذا لا نستغرب هذا الموقف المهتوك والصمت المعيب للرأي العام الدولي، للاتحاد الاوروبي والجامعة العربية وغيرهما في وقت يعاني شعب بأكمله في قطاع غزة مآسي المجاعة والامراض من جراء الحصار.
* ثالثا: القرار الذي اتخذه مجلس الامن الدولي قبل حوالي اسبوعين وبناء على اقتراح الرباعية برئاسة الولايات المتحدة الذي يعتبر مرجعية تسوية الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني للتوصل الى الحل الدائم هو تفاهمات انابوليس وخارطة الطريق، وهذا قرار مجحف ومرفوض من الشعب الفلسطيني لانه يتجاهل المرجعية الحقيقية وهي قرارات هيئات الشرعية الدولية قرارات مجلس الامن 242 و338 و194، ولانه ينتقص من ثوابت الحقوق الوطنية الفلسطينية، خاصة حق السيادة على القدس الشرقية وحق العودة وحق السيادة على المستوطنات الكولونيالية التي اقامها المحتل.
* رابعا: التواطؤ العربي لبعض الانظمة العربية مع المشاريع والممارسات الاجرامية للمحتل الاسرائيلي في قطاع غزة، فقبل شن حرب الابادة بأقل من ثمان واربعين ساعة كانت وزيرة خارجية حكومة الكوارث والمجازر تسيبي ليفني في "ضيافة" الرئيس المصري حسني مبارك، ولم يرف لها ولا لمضيفها جفن عندما اعلنت انها ستطيح بنظام حماس في قطاع غزة وستقتلع حماس من القطاع وان عددا من الدول العربية "المعتدلة" على علم، اعلموا بالخطة الاجرامية الاسرائيلية، وحقيقة هي انه لولا التواطؤ العربي مع المحتلين لما تجرأ جلاوذة الجرائم على ارتكاب مجزرتهم الشنيعة.
واخيرا فان اعداء الانسانية من مختلف الاحزاب الصهيونية، وخاصة كاديما والعمل والليكود قد جعلوا من شلالات الدم الفلسطيني المسفوك ومن اشلاء الجثث متقطعة الاوصال اجندة في حلبة المنافسة بين اعداء الشعب الفلسطيني، فدماء ضحايا المجرمين في مجزرة غزة رفعت اسهم مجرم الحرب وزير الحرب ايهود براك في استطلاعات الرأي الانتخابية، ولأول مرة تسيبي ليفني رئيسة كاديما والمرشحة لرئاسة الحكومة تسبق زميلها في الاجرام رئيس الليكود بنيامين نتنياهو في استطلاعات الرأي العام.
لقد لجأت حكومة المجزرة والارهاب الدموي المنظم الى الخديعة التضليلية لتوفير عنصر المفاجأة ولتمكين قوات الاجرام من حصد اكبر عدد من الضحايا. فقد اعلن وللتمويه ان مجلس الوزراء الاسرائيلي سيجتمع يوم الاحد لبحث خطوات التصعيد العدواني ضد قطاع غزة، وامعانا في التمويه والتضليل فتحت بشكل جزئي بعض المعابر، كما ان اللقاء بين تسيبي ومبارك ساهم ايضا في عملية التضليل. واستغل المحتل يوم السبت، يوم العطلة الرسمية وفي ساعة الاكتظاظ السكاني عند صلاة الظهر في الجوامع والشوارع وعودة طلاب المدارس الى بيوتهم الوقت المناسب لارتكاب الجريمة.
ان مواجهة هذه المجزرة وافشال اهدافها السياسية بكسر شوكة المقاومة ومصادرة الحق الوطني الفلسطيني بالدولة والقدس والعودة يستدعي اولا وقبل كل شيء، ودم الشهداء والجرحى يناشد، اعادة اللحمة الى وحدة الصف الوطنية وتخطي حالة الانقسام، فشعبنا الفلسطيني والعربي بالوف الوف المشاركين في مظاهرات الاحتجاج على المجزرة كانوا يهتفون في عمان والناصرة وعين الحلوة ودمشق وشفاعمرو والطيبة والرباط وفي كل مكان "يا عباس ويا هنية بدنا الوحدة الوطنية"، و"ما في حل ما في حل الا بتقليع المحتل".
وما نأمله في هذا الظرف المصيري ان يؤثر الشارع الجماهيري الغاضب في مختلف البلدان العربية والقوى التقدمية والدمقراطية ان تؤثر على موقف الانظمة العربية التي تستعد لعقد مؤتمر قمة عربي، فهول المجزرة وهول المؤامرة على الشعب الفلسطيني لم يعد يكفيهما بيانات التنديد والاستنكار التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، بل يجب شحنها باجراءات عينية لمواجهة المجرم وسنده الامريكي، فالمصلحة الوطنية تتطلب سحب السفراء العرب من اسرائيل، المصري والاردني والموريتاني ووقف مختلف اشكال التطبيع السياسي والاقتصادي – التجاري مع المجرم الاسرائيلي وتهديد مصالح الانظمة والبلدان التي تساند العدوانية الاسرائيلية، تفعيل المقاطعة العربية بشكل جدي، هذا اضافة الى الدعم المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني وفتح معبر رفح بشكل دائم. ونحن على ثقة بان صمود الشعب العربي الفلسطيني المثخن بالجراح والمدعوم باوسع تضامن عربي وعالمي سيحقق النصر حتما بالتخلص من نير الاحتلال الاستيطاني الاسرائيلي الغاشم واقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفقا للقرار 194 الذي اقرته الامم المتحدة. الخزي والعار للجزارين الذين يجب محاكمتهم كمجرمي حرب ضد الشعب الفلسطيني والانسانية.