لا شك في أن الصحافي العراقي منتظر الزيدي يتمتع بثقافة سياسية تمكنه من معرفة الحدود الضيقة التي تتيحها الظروف الراهنة للتشكل الطائفي في العراق أمامه للتعبير عن غضبه الثوري المكبوت إزاء واقع الاحتلال الأميركي . ولذلك كان تصويبه للحذاء دقيقاً فبعث بالرسالة باتجاه واشنــطن أولاً ومنها إلى العراق وليس بالاتجاه المعاكس الذي كان يمكن أن يؤدي إلى فتنة كبيرة ويحصر ارتدادات فعله السياسي فتبقى في حدود العراق ولا تتجاوزها إلى الآفاق العربية والأميركية والعالمية.
وهنا نُشير إلى قدرات منتظر الزيدي الثقافية والسلوكية الخارقة التي حكمت هذا الفعل: فهي قدرات مكنته من التحكم بأدق وأخطر لحظات التوتر النادرة في عيون وأعصاب حرس الرئيس الأشرس في العالم. أجل إنها قدرات خارقة لمناضل أعياه قصور جماهير أمته التي لا يرى سبيلاً لخروجها على الظلم والإذعان، فأدى بشخصه عنها فرض كفاية بعد ان استحكمت بعيشها أحزاب الاكثريات الطائفية والكردية التي راهنت على احتلال يخلصها من الديكتاتورية ويؤسس لها نظاماً تعددياً يشرعن استدامته بأشكال مختلفة.
وفي المقابل لا بد من أن يلفتنا خطاب »الديموقراطيين الجدد« في تلك الأحزاب وفيه إدانات لإقدام منتظر الزيدي باعتبار أنه اهان مبدأ ديموقراطية التعبير المستجدة وغلّب التعبير عن مكبوته الوطني على الالتزام بواجبات مهنته وعلى الالتزام الأخلاقي بالمراسم الحكومية وعلى تقاليد العرب في استقبال الضيف، وأي ضيف ؟، حيث لجأ إلى الحذاء بدلا من القلم في مواجهة الرئيس الأشرس، بدلا من ان يكون لائقاً في حصر سؤاله مثلاً عن آخر أمنياته للديموقراطية التي اهداها المحافظون الجدد للعراق متجاوزاً ما يكبته كل عراقي عن الفجور في سلوكيات ضباطه ومرتزقته في تحقيقات سجن أبو غريب ومتجاوزا الرعونة في قصف المدن والقرى.
و قد وصل الحرج لدى »الديموقراطيين الجدد« في الأحزاب العراقية المتعاملة مع الادارة الأميركية الى حد تبرئهم واعتذارهم عن سلوك منتظر الزيدي إلى حد اتهامه بأنه مختل عقلياً وهم المدينون لعقلانية المحافظين الجدد المجسدة بأرقى التكنولوجيات الرقمية . ولم يتخيل هؤلاء الديموقراطيون الجدد على الإطلاق إمكانية انتهاك كرامة أقوى رئيس وصل به الهوس إلى حد الادعاء أن الله أرسله ليحقق النبوءات في العالم وفي بلادهم بالذات .كما انهم مثلهم مثل القوميين والإسلاميين في الحركات المقاومة للاحتلال بالسلاح، لم يتخيلوا أن يصل الفعل الفردي الخارق الذي أقدم عليه منتظر الزيدي اليساري الهوى إلى حدود الآفاق العالمية التي يصل إليها فجور النيوليبرالية في بلدان العالم، وأن يتجاوز هذا الفعل الخارق ضوابط الالتزام المهني ورمزيات المراسم والتدقيق الأمني والتكيف السياسي حدود المواجهة داخل المسرح العراقي ليتحول إلى مشهد يحلو للكثير من شعوب العالم المتضررة أن تستحضره على مسارح مواجهتها مع أي رئيس يفرط في بغيه ومنها الشعب الأميركي الذي يعيش أكثر من ثلثه تحت خط الفقر ويرسل شبابه إلى حروب لا أفق لها. هذا الشعب الذي اخذت فئات واسعة داخله ترى أن اسم رئيسها المتنبئ يمكن أن يقترن بصور الاحذية في بطاقات المعايدة وفي المراسلات على الانترنت.
لقد أحسن منتظر الزيدي في حصر التصويب على الرئيس بوش الابن وهو الذي لم يوفر في تغطرسه الأنظمة الحاكمة في الدول العربية عندما شهر سيف ديموقراطيته المحرجة في شرق أوسط كبير أو جديد يتسع لاحتضان ومشاركة العنصرية الإسرائيلية ولم يتورع عن تهديد ملوك وأمراء ورؤساء الاعتدال في تلك الانظمة ومنهم حلفاء له خاصة في السعودية ومصر خلال سنوات حكمه الأولــى.
ولهذا يكون منتظر الزيدي مناضلاً عن اليسار ومفرِّجاً عن كرب الحكام العرب إضافة إلى تفريجه عن كرب جماهير الشعوب العربية وغير العربية. ويكون في حصر تصويب حذائه باتجاه رأس الرئيس الأميركي »المهووس« وحده الواقف إلى جانب مفاوضه رئيس الوزراء العراقي قد تلافى خطر الخلط بين البطولة فـي ضـرب الرئيس الاكبر الذي تُجمع الأمة على كراهيته من جهة وبين الفتنة الهوجاء التي كان يمكن أن تحصل لو طال الضرب رئيس الوزراء العراقي وهو الذي تدعمه جماهير غفورة واسعة بعد الاحتلال والذي توافقت الكتل الأكبر في تمثيل العصبيات العراقية المختلفة على تأييده رئيساً مفاوضاً مقبولاً من إدارة الرئيس الأميركي عينه من جهة ثانية. أجل كان الرئيسان يتبادلان التقدير وعلى مسافة كانت لحسن الحظ كافية للتحكم بتصويب الحذاء بالاتجاه الذي يُفرح الأمة في العراق مجتمعة ولا يتعداه إلى ما يستثير المشاعر المتناقضة الى حد الفتنة بين طوائفها.
وجدير بالتذكير أن منتظر الزيدي لم يؤد فرض الكفاية عن قوميي الأمة ومسلميها وحسب فقد ظهرت تحركات وكتابات يسارية وشيوعية ترى في فعله الفردي الخارق، ومن منظور ليس بعيداً عن المنظور الديني، أنه يقوم عن بقايا تنظيماتها المدنية المعارضة في العراق وخارجه و حتى في لبنان ، بفرض كفاية يغفر لها تعوقها عن تجاوز إرباكاتها النظرية والتنظيمية ويغفر لها تكيفها مع ما يُفرضه الطائفيون على الجماهير المستلبة إلى حين ظهور المنتظر الأكبر الموعود الوافد من بلاد أخرى.