كل شيء كان حاضرًا وجاهزًا لاستقبال نبأ الإعلان عن فوز المرشح في الانتخابات ماعدا كلمة واحدة لم يقلها أحد، وثلاثة وجوه غابت عن المكان، وحضرت في الوجدان، كلمة واحدة ناقصة لو علّقت على المدخل ليكتمل المشهد، أشار اليها كثيرون ولو همسًا، ولم ينطقها أحد، همس في أذني أحدهم: هرمنا... وقال آخر: خمسًا وعشرون عامًا من أجل لحظة، تجاهلت الملاحظات وتجاهلت الكلمة، وقلت في نفسي، لن أجهد نفسي بالماضي ما دام الأبناء على خطى الآباء. أو يتمسكون بإرثهم الوطني الثقافي الحضاري والإنساني، ويمضون بأسلوبهم وطريقتهم يشقون طريق المستقبل، فهم أبناء الحياة، والحياة لا تعيش في منازل الامس على رأي جبران، ورحت أجول في نظري بين الحضور، أبحث فيها عن وجوه ألِفتها لسنين طوال وغابت قسرًا او طوعًا، تمر من امامي كأنَّها قادمة من عالم آخر، أو ربما أنا قدمت إليها من عالم آخر لست أدرى.
كل الوجوه المألوفة تجمعت في مكان واحد، وجوه كانت ضائعة تائهة في سراديب ذاكرتي، وفي زحمة الحياة اليوميّة وما يُرافقها من أحداث حرب جَرَّت الويلات على شعبي، كنت أنظر إلى العيون التَّائهة الحيرى بين الحُزن والقلق والفرح، في اللحظة التي أُعلن فيها فوز نضال الحاج رئيسًا جديدًا لكوكب.
غريبة تلك اللحظات التي تمر بحياتنا، وكأنَّها حُزمة واحدة من القضايا، تأتي فجأة مضغوطة في حزمة واحدة، تنفجر أمامك دفعة واحدة، وتتركك في حيرة بين الحزن والفرح، تستعرض من خلالها شريطًا سينمائيًا، تستقي أحداثه ومواضيعه من الشخصيَّات التي تمثل أمامك في تلك اللحظات الجامعة لكل الاحاسيس في لحظة انفجارها، قد يبدو كلامي فلسفيًا بحاجة إلى التَّوضيح والاسناد.
عندما كنت أنظر إلى الشَّباب يعتصرون لحظة الفرح بالفوز، كنت ارى أطفال ونساء غزة يعتصرون الحياة من أجل لقمة خبز يطعمون بها أبنائهم ليبقوا على قيد النّضال، والنّضال عندهم أن تبقى على قيد الحياة في وجه الموت القادم بين اللّحظة وأختها، يا لها من معادلات صادمة في وجه الموت المؤكد في كل لحظة. وأمامي ينتصب شباب يحاول تغييب الواقع الأليم، ينتزعون الأمل من الألم، فيرقصون لدقائق معدودة بفرح طفولي، ليعودوا الى واقع شعبهم، فيصمتون او يهدؤون، فالحياة اقوى من الموت.
نظرة أخرى الى الوجوه التي أعرفها عشتها وعايشتها سنوات أقلِّب أفكارهم واقرأ ما بين سطورهم، كأنهم كانوا في نوم طويل وافاقوا يحلمون، أعيش زمن غربتي الطويل، اناقش نفسي في عتمة الليل فلا أجد مجيب، أداعب افكاري التي رافقت وحدتي، أخاطب روحي هل عز اللقاء الا في لحظة الحزن أو لحظة الفرح، ولماذا يتخندق الجميع في خلوتهم كل هذا الزمن الطويل وهم يحملون لواعج أفكارهم المغلفة بالأمل على ظهورهم وهم لا يدرون.
نظرت إلى العيون الحيرى بين الفرح والحزن، تنبَّهت عيناي إلى رجل يعتمر حطة فلسطينية، كان "رجا" ينظر إلى كل الوجوه بقلق وحيرة، ويتابع كلّ الحركات من حوله، وكأنَّه يندُب غائبًا عنه ولم يعد الغادي، وفي عينيه جالت دمعة حزينة، حرّكت شغاف قلبي، وفتحت أمامي عالم من الذكريات القديمة الَّتي لا تمحوها السنين، ولحظات لا يمكن أن تنساها في هذه اللحظات المرتبكة، فطَفت على سطح الذّاكرة، احتضنته وباركت له بالفوز، شعرت أنى أطرد عنه شبح أحزانه الأليمة.
تذكرت في تلك اللحظات المرحومة هالة احمد، زوجته التي رحلت من عالمنا قبل ان تذرف دمعة الفرح بالنجاح، وان تحاول إشاعة الفرح بين الجميع، فقد احبت هذه الأجواء وتمنّتها، وربما كانت ستطلق زغرودة مدوية تعلن فيها فرحتها، أما الرّقص فكان عزيزًا عليها بسبب المرض الّذي أقعدها، وبالتالي سلبها الحياة.
وتمر لحظات أخرى لأرى قاسم حجوج "أبا سمير" يسير بيننا بهدوء يخفي فرحته وكأنها أثمن من أن يراها أحد، حتى تخونه القدرة على إخفائها فيطلق لها العنان بضحكة خفيفة وبتعليق صائب يوقف جموح عواطفه، وربما بيت شعر يلخص مكنونات فكره، ويعيد فيه لنفسه إتّزانه، حتمًا سيسلم في طريقه على "ابي فارس" سلامًا حارًا، ويبادله حديثًا مقتضبًا ثم يجلس وهو يرسم بسمته الفرحة لكل من يقابله.
بين الجموع المحتشدة رأيت أبا حسام محمد سليم الحاج، ينتقل كالفراشة بين هذا وذاك، يرتب الأمور وربما يدير الحلوى على الحضور، يصغي لكل تعليق، ويعلق على كل شيء ويمضي، ضحكته تتراقص أمام شاربيه، ولا تفارق محيَّاه، يريد أن يرى كلّ الأمور تسير على ما يرام، الفرحة تغمره، فينقل مشاعره إلى الجميع دون استثناء.
مجرّد أفكار راودتني وداعبت افق خيالي في لحظة التقاء الأمل بالعمل، فرسمتُ صورة المشهد بالكلمات، لم اقصد منها إلّا ما كتبت، فلا تبحثوا عني خلف الكلمات، ستبقى الكلمة المحظورة تحوم في سماءنا، لانها البذرة التي أنبتت سنابل ستملأ الحقل، وسيبقى الآباء هم الجذر الخالد في الاذهان يضيئون العتمة كلما خبا النور، يقول الدرويش في احدى روائعه: " وحبوب سنبلة تموت ستملأ الحقول سنابل" ويقول زياد " ديروا بالكوا على بعض" فيلخّص تاريخ شعب.
كوكب أبو الهيجاء
29.2.2024
إضافة تعقيب