لجأتُ إلى متصفِّح الذِّكريات، وبدأت أتصفّح الأحداث المخَزَّنة فيه، ظهَرَ لي دون أن أتعمَّد ذلك، خبر لقاء قديم وهامشي بفتاة أرادت أن تستفسر عن بعض الأمور الهامّة... بدأتُ أراجع أحداثه، ومرَّ تركيزي رويدًا رويدًا على شاشة المتصفِّح الباهرَة بألوان تلك الفترة، ريثما يتبلور مشهد اللقاء، وفعلًا استطاع استعادته، وكان من ترتيب الصُّدفة.
لم أدرِ كيف تجاوز المتصفِّح رقابتي الذّاتيَّة، ربما لكثرة تحديثاتي التي مرَّ بها خلال السِّنين، ممّا جعله الآن غير آمن، بعد اختراقه لجدار خصوصيَّتي... دولاب حب استطلاعي، أراد يُدخِل اللقاء مجَدَّدًا إلى صالون تفكيري عنوةً، لكنَّني لم أُتِح له، وأصررتُ على رفض استقباله، لأنّ تدريجه بقي في أسفل اهتماماتي، وغضَّيتُ الطَّرف عنه تمامًا.
خلال مراجَعتي للحدث الذي عُرِضَ على شاشة متصفِّح الذِّكريات، تبيَّن لي أن تلك الفتاة لم ترغب بالتقرَّب منّي، وأنا إلى هذه اللحظة لم أتسرّع يومًا بمنح أي لقاءٍ كهذا بُعدًا غير منطقيٍّ، وببساطة أكثر فضَّلتُ ألّا أُكرِّس لها وقتًا إضافيًّا، لأن فريق أفكاري لم يَبنِ لأجلها مقرًّا ميدانيًّا ليحقق معها، أيضًا لم أتهيّأ لاستجوابها، أذكُر أنها ابتَعدت عنّي من تلقاء نفسها خلال ثوانٍ، دون أن تودِّعني، تاركةً وراءها سربًا طويلًا من اللامبالاة، وكأنّها وقفت أمام رجل آلي للاستعلامات!!
كان لقاء تلك الفتاة معي رصينًا للغاية، لم تُبدِ حرجًا، لكنَّ ذاكرتي تجَمَّعَت حول عُيون أسئلتها الواضحة، التي وجّهَتها صوب الموضوع مباشرةً، إذ لم تتفنَّن في صياغتها... لم تكن التفافيَّة. الشَّي المُلفِت في هذا اللقاء، أنها لم تُعرِّفَني على نفسها، وأنا بادلتها بالمِثْل، لأنّي لم أُقدِّم لها مفتاح التعارف الضَّروريّ في مثل هذه الحالات...
...لكن لو فعلتُ ذلك، ربّما كانت سترميه أمامي على الأرض بلا ذوق، عندئذٍ أكُون قد أوقعتُ نفسي في مصيدة التحرُّش اللفظي، فتُثير بلبلة من حولي، أنا في غنى عنها! لذلك وضعتْ أمامي حدودًا رسميَّةً، ولم تسمح بأن أفترش لنفسي راحة التعاطي معها، بل ألقتْ عليّ عباءة احترامها، ورفَعتُ لها قُبعة تقديري، لتَتأكَّد من صفاء نيَّتي، لأني لم أُخفِ ضدها في الكواليس أي عمل يُقلِّل من شأنها، هذا آخر ما زَّودَني به متصفِّح الذِّكريات من معلومات إضافية كانت غافلة عنّي.
تركَ هذا اللقاء أثر سلبي عليّ؛ فعندما رميتُ عقِب سيجارِه في منفضة النِّسيان، انبعث منها دخان الاندهاش الذي عشَّش في أنفاسي، متحمِّلًا رائحة ذكرى هذا اللقاء المزعجة، كي يتسنّى لاحتجاجاتي الشَّخصيَّة فرصة قمعه، منتظرًا الحصول على إذنٍ من إعدادات متصفِّح ذكرياتي، ليأذن لي بمحي ذاكرته المشوَّشَة، التي ملأت مرابع مللي بالضجيج، يردِّدها صدى حيرتي بلا داعٍ!!
إضافة تعقيب