news-details

"غريب الديار" دراما ملحمية تدمج التاريخ بالحاضر | رياض خطيب

تبحر وتغوص عميقا في لجّة التاريخ البريطاني في أسلوب مميز يدمج التاريخ بالحاضر في فلاش باك" ما يقارب القرنين من الزمان!

تبدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية حين يقرر فرانك وكلير القيام بجولة نقاهة في ربوع الوطن وعلى الأخص مقاطعة اسكتلندا مهد الزوجين فيرايز وموطنهم الأصلي، واثناء هذه الجولة ينفصل الزوجان في متاهات طبيعة هذا الوطن الجميل. وكان أن وصلت كلير إلى بقعة جميلة تحوي مجموعة من الصخور تنتصب على شكل أعمدة وتماثيل، وهنا تحدث نقطة التحول في الحدث الدرامي الذي يشكّل مدخلًا أساسيًا لما يجري من أحداث على مساحة دراما شائقة ومثيرة تمتد على أكثر من ثلاثين حلقة!

حين تقترب كلير من هذا الموقع تنفعل من جمال هذه البقعة. وما كادت أن تقترب وتلمس إحدى هذه الصخور، يحدث الفعل الدرامي والذي يشكّل نقطة انطلاق لمجريات وأحداث هذه الدراما. بمجرد لمسها للصخرة تعود بها الأوضاع إلى الأرض الأسكتلندية قبل ٢٠٠ سنة مضت في فترة كان الصراع الدامي على أشدّه من أجل استقلال وحرية بلادهم اسكتلندا والتحرر من قبضة التاج البريطاني.

ينفصل الزوجان بصورة قسرية، فرنك يبدأ رحلة البحث عن زوجته وسط حالة من اليأس وفقدان الأمل في دوامة هذه الحالة الغريبة وغير المبررة لغياب زوجته وحبيبته كلير! وكلير بالاتجاه الآخر تجد نفسها بين مجموعة من الناس الأسكتلنديين من العائلات العريقة. عائلة فريز إحدى العائلات العريقة والتي تحمّلت إسقاطات ومهمة التخلص من الحكم الإنكليزي البغيض وإعادة حكم البلاد إلى ولي العرش الأصلي الابن البار للأرض الأسكتلندية.

فما كان أمام كلير إلا الانخراط في هذه الأجواء، حيث يترعرع الخوف والجوع والتخلف وذلك من منظار سياسي فاشي بحيث يزرع المحتل الإنكليزي كل أساليب القهر والملاحقة في معاملة أهل البلاد كأنهم قطيع من الحيوانات، شكلًا ومضمونًا من خلال حكم الاستبداد ونهب خيرات البلاد وترك أهله فريسة للجوع والقهر والاستغلال.!!

وهذه إحدى الرسائل أو الخطوط الأساسيّة التي بنيت عليها حبكة وتسلسل الأحداث في مجريات هذه الدراما.

هكذا كان وهكذا سيكون الاستعمار والسيطرة على الأرض وما تحويه من خيرات وتحويل أهله إلى قيان وعبيد في خدمة السيد المستعمر.

فرانك وبعد أن عجز عن إيجاد أي تفسير لاختفاء زوجته لم يجد مفرًا أمامه إلا في متابعة مسيرة حياته ومتابعة مسيرته التعليمية ليصبح محاضرًا في موضوع التاريخ البريطاني عبر العصور.

أمّا كلير بصفتها ممرضة سابقة بالجيش البريطاني فتنخرط بسرعة وبصورة اندماجية متكاملة وتتحوّل إلى معالجة لها مكانتها الخاصة وسط محيط من الناس يحوّلهم الجهل والتخلف إلى مجرد أشباح بحيث يستوطن الجوع والإهمال والفقر.

ومن خلال عملها بالمعالجة تتعرف على جيمي وهو أحد أبناء عائلة مكانزي فرايز، من رموز المقاومة لسلطة التاج البريطاني والعمل على استرداد عرش ملكهم وسيد عشائرهم الملك ستيوارت والذي سرق منه العرش تحت أقدام جلاوزة الطغاة الانكليز.

الموضوع الآخر الذي تدور حوله مجريات هذه الدراما عبر الصراع على السلطة والعرش هو قصة الحب الذي تولّدت من رحم المعاناة والصراع بين كلير وجيمي هذه القصة التي تتكلل بالزواج وفق التقاليد والعادات الأسكتلندية، وذلك بعد أن فرضت عليهم قوانين الحكم الاستعماري الإنكليزي ذلك، أو البديل عنه هو دخول جيمي السجن، وربما يصل إلى حد تنفيذ حكم الإعدام.

قصة حب كلير وجيمي مع كل ما مر خلالها من معاناة وملاحقة وحصار قاتل إلا أنّها تتعمّق وتزداد تماسكًا حتى تحمل كلير بالطفل الموعود، وإصابة جيمي إصابة قاتلة في معركة وودي، المعركة التي ينتصر فيها الانكليز وبهزيمة الملك ستيوارت ومقتل وإصابة معظم رفاقه بالمقاومة الأسكتلندية ومنهم طبعًا جيمي الذي يلحّ على كلير بالعودة إلى الزمن الحاضر التي أتت منه، فتعود إلى زوجها فرانك وهي تحمل بطفلها من جيمي.

عودة كلير على مضض إلى فرانك بعد فراق طويل، هي نقطة تحوّل أخرى ومهمّة بالحدث الدرامي ولادة الابنة بيري ورضوخ فرانك إلى واقع جديد، هو تقبّل بيري بالرغم من أنّه يعرف بأنها ابنة جيمي وثمرة زواج من عاشق أمّها، وأبوها الحقيقي جيمي.

تستمر رحلة البحث عن الذات والصراع بين حياتها مع زوجها الأول فرنك وحبها لزوجها الثاني جيمي.

يستمر هذا الصراع حتى تكبر بيري وتصبح طالبة جامعية، بحيث تلتقي روجر زميلتها بالكلية وتبدأ معها رحلة البحث عن أصول أبيها وجذورها الأسكتلندية. وبعد أن تهتدي بيري إلى تفاصيل أصلها ومكان وجود والدها جيمي تلحّ على أمّها بأن ترجع إلى زوجها وأبيها جيمي. على مضض توافق كلير على هذه المغامرة وبعد

غياب أكثر من عشرين عامًا.

عودة كلير التي أذهلت جيمي وجميع الأهل من معارفها. هذه العودة التي بكل ما تحتويه من تناقضات إلا أنّها تتّسم بتحول مهم وجوهري في مجرى أحداث هذه الدراما. انتقال جيمي بمرافقة كلير كمعالجة على ظهر باخرة إلى العالم الجديد، ما أطلق عليها أمريكا وكانت قد بدأت رحلة الاستيطان الإنكليزي للأرض الأمريكية وأصبحت تخضع مباشرة للتأجير البريطاني. رحلة البحث عن هذا العالم كانت مكللة بالمخاطر والصعوبات الجمّة، ولكن في نهاية الأمر يصل إلى العالم الجديد. وطبيعة الحال أول شيء فكّر به جيمي هو زيارة الخالة سكيلر والتي كانت قد وصلت وزوجها من أوائل المستوطنين إلى بقاع هذه الأرض.

وهناك تستقر وتستحوذ على قطعة جميلة من الأرض تمّ تحويلها إلى مزرعة. وطبعًا تنتقل بعد فترة لتصبح صاحبة ثروة قوة اقتصادية صاعدة وذات نفوذ سياسي لتقرّبها من الطبقة الارستقراطية الحاكمة.

وعند وصول جيمي وكلير تستقبلهم العمة ببالغ الحفاوة والترحاب، ولكن ما يجري على أرض الواقع لا يروق لكلير، وهي القادمة من عالم آخر يختلف كليًا عمّا هو موجود بهذا العالم، وعلى الأخص قضية الاستعباد والاعتماد كليًا على استغلال العبيد الذين تم تهريبهم من أجل خدمة السيد القادم الجديد لهذه الأرض وكان قرار كلير واضحًا ومحددًا، لن أقيم هنا على هذه البقعة وسط حالة الاستغلال والعبودية لبشر هم مثلنا إلا أنّ الله خلقهم ببشرة سوداء.!

في نهاية الأمر يترك جيمي وكلير قصر العمّة. ويتمكّن جيمي من الحصول على قطعة أرض من حاكم المستعمرة، ويبدأ في مسيرة البناء والاستقرار في هذه الأرض الجديدة. وهنا تكشف حلقات الدراما المتتالية بأحداثها الدرامية حقيقة ما قام به الغرب المستعمر من عملية تطهير عرقي لسكان البلاد أصحاب الأرض من الهنود الحمر والتي كان من الممكن أن يتعايش عليها الطرفان وأن يتكون مجتمع متكامل يوحّد أصحاب الأرض والقادم الجديد.

ولكن ساسة التاج البريطاني الاستعماري كان همهم الوحيد تحقيق المكاسب والاستيلاء على الأرض وخيراتها. وهنا بدأت عملية تطهير عرقي وتصفية لأهل البلاد من الهنود الحمر، وفي نفس السياق تظهر حركة معارضة والتي كان هدفها تحرير العبيد وبناء عالم يقيِّم الإنسان على مقدرته بالعطاء، والعمل على بناء عالم أكثر حرية وعدالة على هذه الأرض.

نهاية تحمل في خلفيتها الكثير من التساؤلات وعلى الأخص لمن هم أبطال هذه الملحمة الرائع: هل ممكن ان يتحول الانسان إلى عبد يخدم أخاه الانسان بالانتماء الا من فارق واحد وهو انه خلق من بشرة سوداء ولكنه يملك كل مقاومات البشر الذين وجدو على هذه الأرض؟!

ويمكننا القول كتلخيص واسع وعميق لهذه الدراما، التحفة الفنية الرائعة بأنّها لا تحكي التاريخ بل تجسّده بأجمل صورة وتجعلك تبحر وتغوص عميقًا في لجّة هذا التاريخ بكل اسقاطاته. وبالرغم من أن ما تطرحه الدراما ممكن أن يكون غريبًا وبعيدًا عنا وعن واقعنا زمانًا ومكانًا إلا أنّها بمحصلة الأمر ترسم وتجسّد لوحة فنية أصيلة وجميلة، ممكن أن تكون ملهمًا لكل شعوب الأرض. فالتاريخ كتب ليس فقط لكي نقرأه ونحن جالسون نستجم بل من أجل فهمه واستخلاص العِبر التي ممكن أن تعيننا على اكتشاف الحاضر وكل ما يحتويه من إسقاطات قد تساعدنا على تخطي مصاعب هذه الحياة.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب