يوم السَّابع من تشرين الأوَّل من العام المنصرم، عام ألفين وثلاثة وعشرين، وارَيْنا والدي ورفيقي وصديقي وخلِّي وأنيسي ونديمي، أبا خالد، تراب حيفا، بعد تسعة عقود أو يزيد من اللؤلؤ الصَّافي ناصع البياض، قضاها في الكدِّ والجدِّ والجهدِ والعملِ والكدحِ والكفاح والعطاء، ليضمنَ لعائلته لقمة العيش الكريمة، ولشعبه عيشةً سعيدةً عزيزةً شريفةً رغيدةً، واليومَ أصبح موطنَ جسده ﴿..تحتَ الثَّرى﴾، ﴿..من تُرابٍ..﴾، ﴿لأنَّكَ تُرابٌ وإلى تُرابٍ تعود﴾ ها قد عاد والدي إلى حضنِ الأرضِ التي عشقها بكبرياءٍ وعزَّة نفسٍ، إلى شاطئ البَحر الذي أحبَّ، عاد إلى شاطئ البَحر الشَّاميِّ، وأصبح موطنَ روحه مع الأبرار والأحرار والأخيار والشُّرفاء والصَّالحين في السَّماء، يُطلُّ علينا بين الحين والأخرى ليطمئنَّ علينا، يسمع شكوانا ودعوانا ودعاءنا ورجاءنا وتضرُّعَنا علَّه يستطيع إيصال الشَّكوى إلى من جلسَ بجواره، بجوار الحكيم الحليم..
يسْمَعُ شكوانا، ليُسمِعَ رَجاءنا..
تُرى هل يَرى من تحت الثَّرى ولا يُرى، يرانا ولا نراه..
ها قد عاد والدي إلى حضنِ أرضِ حيفا التي عشقَها عشقًا سرمديًّا اسكره في صحوته ودامت صحوته في سُكرِهِ..
يُسمِعُ شكوانا للباري، بعد أن جلسَ عن يمينه، لأنَّ الشَّكوى لغيره مذلَّة، ويَحثُّنا على المضيِّ قُدُمًا في سبيل تحرير الأرضِ والإنسانِ من العبوديَّة والظُّلم والطُّغيان والقهر وقد علَّمَنا كيف ننصُر المظلومَ والمُضطَّهدَ ونشُدُّ على أياديه وندعمُه ونساندُه وكيف نُكيد الظَّالم ونفُكُّ وثاق الأسرِ ونكسرُ أصفادَه ونُحطِّم قيودَه، لنصبحَ أحرارًا سعداء في وطنِنا، الذي سوف يكون سعيدًا مهما طالت الشَّدائد..
"علَّمتنا كيف الشَّمم وكيف نقهرُ الألم"
هذا ما كنتَ تقولُه لنا..
هذا ما كنتَ تُنشدُهُ لنا في طفولتنا وشبابنا وحتَّى في أيَّام مرضِك أيضًا..
وإنِّي وإن أُخِذْتُ "بجريرتك" الطَّاهرة العفيفة، وماضيك النِّضاليِّ العزيز، راضيًا بها مَرضيًّا عليك بطريقِك، فهي وسام على صدري أحفظُهُ برمش العين وبين الأهداب والجفون وفي فؤاد الفؤاد، فها أنا هنا باقٍ على دربك الكفاحيِّ مع رفاقك، سائرًا بمسيرتِكَ، وإن كانت الدَّربُ وعِرةً، باقٍ على طريق الحقِّ والعدالة الإجتماعيَّة، لا استوحشُها لقلَّة السَّالكين فيها، "إِنَّ الكِرامَ قَليلُ"، على طريقك نمضي مهما كان الثَّمن، وقد دفعنا الثَّمن، وما زلنا ندفعُه ولا نبالي..
"بِعنا له يوم المِحَن أرواحَنا بلا ثَمن"
وتبقى حيفا عروس الكرملِ ويبقى رذاذ بحرها يُكحِّل أهدابها وجفونها وتبقى امواجُها تُسرِّحُ شعرها وتُجدِّلُ ضفائرها وتُعطِّرُ جدائلها..
إنَّها ليست جريرة، إنَّها حَصانةٌ ومَناعةٌ، حصانةٌ منيعةٌ ومناعةٌ حصينةٌ لا نهابُها، وهَبْتَنا إيَّاها منذ نشأتنا، ورضَعناها حليبًا خالصًا طاهرًا صافيًا من ثدي أمِّي، أم خالد..
أَذكُركَ وأتذكَّرك ليس فقط في السَّابع من تشرين الأوَّل، لأنَّ كلَّ يوم عندي هو السَّابع من تشرين الأوَّل، بكرةً وظهيرةً وأصيلاً، وكذلك أنتَ، بالتَّأكيد، تذكرُني وتتذكَّرُني دومًا، وإن كنتَ بعيدًا عنِّي، وأنا متأكِّدٌ من ذلك، لأنَّك أنتَ كلُّ كياني وكيانُ كياني..
ذكراك "وسُكناك في البال" يا رفيقي ذكرى "وسُكنى اللون في العلم"، يا والدي..
إنتظِرني فلنا لقاءٌ، أنتظرُك في لقاءٍ، أو نلتقي يومًا في حيِّ وادي النِّسناس، أو على شاطئ تلِّ السَّمك، أو على قمم الكرمل الأشمِّ، عساكَ تعودُ، فإن عدتَ عليك تحديد مكان اللقاء، فاعذُرني في طلبي، وفي أمنيَتي حيث يمكنه أن يكون صعب المنال، لأنَّ "وما نيل المطالب بالتمنِّي" لكن كيف السَّبيل إلى لقائنا..
أنتَ كائنٌ معنا، موجودٌ بيننا، في كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ اللحظات، لأنَّك لا تُنسى ولا يُمكن أن تُنسى، فكم كان يحلو لنا السَّمر والسَّهر، نتسامر ونتحاور ونتنادم، يا خير نديمٍ في الزَّمانِ..
نحفظُ لك صورتك العزيزة وصوتك الصَّدَّاح ورائحتك الزكيَّة النَّضرة وطلعتك البهيَّة يا بهيُّ الطَّلعة...
"عَسَى الأَيَّامُ أَنْ تُرْجِـعَ قَومًا كالذي كانُوا"
تعوَّدنا أن نكون معًا وأن نذهب معًا، أن نلتقي دومًا على مدار أيَّام الأسبوع، لكنِّي لا أعرف كيف أنَّ عَدْوكَ سبقَ عَدْوي، ومشيَك السَّريع سبقَ مشيي البطيئ، لكنَّ مشيئة الجبَّار القهَّار أقوى من القويّ وأعتى من العتِيِّ، أن يكون مشيُك أسرع من مشيي..
فسبقَت خُطاكَ خُطاي..
لكنِّي أعدُك يا والدي أن أنساك ولن أتذكَّرُك أبدًا، وذلك حين تجِفُّ مياه البَحر والنَّهر والمَطر، أو تُهاجر الأمواجُ شواطئ اليمِّ وتختفي عن التَّتابع ويزول الزَّبدُ، أنساكَ حين تُطفئ الشَّمسُ نورها، وتُخمِد الكواكبُ ضوءها وتخبو الأجرام السَّماوية شعاعَها، وتغيبُ عن السَّماء زُرقتُها، وتحتجِبُ في عباءتها السَّوداء الحالكة، خجلاً، لتبقى في ظُلمتها الأبديَّة، غائبة عن العيون والأبصار، أنساكَ حين يذهب الغمام إلى غيرِ رجعةٍ، ويختفي الظِّلُّ عن الأرض، ويزول الظِّلُّ في ظلِّه، وينقطعُ الهواء عن الهواء فيكون الفضاء دون هواء، حينها أعدُكَ أنِّي سأنساكَ..
سأنساكَ ساعةَ تحينُ السَّاعةُ..
لكنَّك إلى ذلك الحين ستبقى معي ويبقى ذكرُك في ذاكرتي..
جاء في العقد الفريد، الجزء الثَّاني، للفقيه أحمد بن محمَّد بن عبد ربِّهِ الأندلُسيِّ، في باب السَّلام والإذنِ ص 258:
وأتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: عليكَ السَّلام يا رسول الله، فقال لا تقل: عليكَ السَّلام، فإنَّها تحيَّة الموتى، وقل: السَّلام عليكَ!
عليكَ منِّي يا والدي سلامٌ..
أبي نحن في حيفا بخيرٍ، ولا نزال بخيرٍ، وسنكون بخير وسنبقى بخير، لأنَّنا أهلُ خيرٍ وجودٍ وكرمٍ ووفاءٍ، رغم ظُلم ذوي القُربى، والجاحدين والظَّالمين الذين تعرفهم جيِّدًا، طمئِنَّا عنك، هل عندكم ما عِنَّا، أم أنَّكم "سواسية كأسنان المشطِ" لا تعذيبٌ ولا ترهيبٌ ولا تهجيرٌ ولا تدميرٌ ولا قتلٌ ولا تنكيلٌ ولا اضطهادٌ ولا ظلمٌ ولا احتلالٌ ولا استغلالٌ ولا بطشٌ..
أرسِل لنا من عليائكَ شارةً، إشارةً، بشارةً ولو فراشةً..
أرسِل لنا من سمائكَ طيرًا فردَوسيًّا، هُدهُدًا يدلُّنا على الينابيع العذبة..
أرسِل لنا من فضائكَ حمامةً أو يمامةً، تحمل بمنقارها غصنَ زيتونٍ أخضر تُبشِّرُنا بنهاية الطُّوفان لنعودَ إلى الأمان..
أرسِل لنا من هوائكَ حمامةً على شكل الرُّوح القُدس، لتسكنَ أرضَنا
ومسكونتَنا المسكينةَ السَّكينةُ..
أرسِل لنا من اجوائكَ طائرَ السَّلوى، ليأكلَ الجياعُ من طيِّباتك وخيرِكَ ونعمِكَ، ولينعَمون من نورِكَ وبخُّورِكَ وسرورِكَ وحبورِكَ..
أرسِل لنا البردَ والسَّلامَ، بعد صعودِك إلى جنَّات الخُلدِ..
ظلِّل على شعبي الغَمام، ﴿..في ظُلَلٍ من الغَمامِ والملائكةِ..﴾
ظلِّل على شرقنا الحبيبِ الغمامَ ونَجِّهِم ﴿..من الغَمِّ..﴾..
يا شعبي يا عودَ النَّدِّ..
نحن في حيفا بخير طمِّنونا عنكم..
لقد كنتَ يا والدي الرَّفيق، دومًا معنا..
تاريخُكَ لم يرحل معك، إنَّه في جُعبتك تأشيرة دخول لمقام الصَّالحين
الأبرار الشُّرفاء، وهو معنا نحفظه في كِنانتنا كما تُصان السِّهام والنِّبال
والرِّماح فيه، ليومِ استعمالها..
تعرفُك بطحاءُ حيفا وبطاحُ الجليل وساحُ النِّضال والعراك في أماكن العمل، وتعرفُك غبراءُ أيلة وديمونة وعراد والبحر الميِّت وتعرفُك كثبان النَّقب وانتفاضة العاشورا في ناصرة شعبنا ومظاهرات ضدَّ الحكم العسكريِّ، وضدَّ العدوان الثُّلاثيِّ على مصر، ومظاهرات التَّأييد لكوبا الأبيَّة جزيرة الحرِّيَّة، ومظاهرات الدَّعم لشعبنا العربيِّ الفلسطينيِّ الرَّازح تحت الإحتلال، والدَّعم للفيتنام، ووقفات لدعم الشُّعوب في حقِّها في تقرير مصيرها لوحدها، وكنتَ تُبدعُ في كتابات الشِّعارات على الحيطان، وكنتَ جريئًا شُجاعًا في توزيع المناشير على العمَّال في المصانع، وعلى الأهالي في أحياء حيفا، كم كانت صعبةً تلك الأيَّام..
كنتَ صوتَ وقبضةَ العامل على المطرقة..
كنتَ صوتَ الفلاح ويدَه على منجله يوم الحصاد..
كنتَ صوتَ المثقَّفِ الثَّوريِّ في نشاطه وعمله الدَّؤوب..
كنتَ صوتَ ناصرٍ للمظلومين والمضطهدين أينما كانوا في أصقاع المعمورة..
كنتَ الصَّوتَ المقاومَ والمدافعَ عن الإنسان المظلوم ووجوده في مقولةٍ "إنَّ النَّصرَ هو صبرُ ساعة"، وكما جاء في الحديث الشَّريف: إنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ..
كنتَ الصَّوتَ الشُّيوعيَّ العُمَّاليَّ، صوتَ الحقِّ والحرِّيَّة وعدالة الإنسان..
كنتَ الأبَ الحنون والجدَّ العطوف والرؤوفِ لأحفادك وأسباطك..
كنتَ الإبَ الوفيَّ والأخَ المخلصَ..
كنتَ الزَّوج المِثاليَّ وكنتَ مِثالي..
كنتَ المعلِّمَ والمدرِّبَ على فنِّ السِّباحةِ وكتابة الخطِّ الجميلِ واللفظ الصَّحيح للكلمات والأناشيد الوطنيَّة..
كنتَ وستبقى والدي ومنارَتي وبوصَلتي ودليلي وفناري..
كنتَ في كلِّ البطاح وفي كلِّ ساح..
كنتَ من فروع تلك السِّنديانة الحمراء التي تضرب جذورها عميقًا في جوف الأرض لتُزهر الورود وتنمو الأشجار ولتتفجَّر المياه العذبة من بين الصُّخور لتروي العطاش والارض اليباب وليُزهق التَّباب..
كنتَ حافظَ أسراري..
كنتَ بإصراركَ سببَ إصراري..
كنتَ يا خيرَ ما كنتَ..
وكانت آخر قبلةٍ على جبينك المرفوع في السَّابع من تشرين الأوَّل..
وكانت آخر تحيَّةٍ زكيَّةٍ عطرةٍ لكَ في السَّابع من تشرين الأوَّل..
ليتني أكونُكَ يا أجودَ إنسانٍ ويا أجزلَ إنسانٍ..
بغيابك لم نفترق لأنَّنا سنلتقي..
عليكَ منِّي سلامُ الله ابدًا ما بقيتُ..
وسلامٌ عليك يومَ وُلدتَ ويومَ متَّ ويومَ تُبعثُ حيًّا..
لكَ المجدُ والخلودُ يا والدي ويا رفيقي..
منمشي ومنكفِّي الطَّريق يا رفيق..
إضافة تعقيب