news-details

ما حك جلدك غير ظفرك | توفيق كناعنة

 

يوميا أشاهد التلفزيون وأرى بأم عيني العمليات الإجرامية التي يرتكبها حكام إسرائيل ضد شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، من قتل وتهجير وابادة جماعية لهذا الشعب المسالم ولكن المصرّ على حقه في التحرر والاستقلال وكنس الاحتلال.

أعود الى ذكريات الطفولة عندما كان عمري لا يتجاوز الحادية عشر عاما، الى نكبة شعبنا سنة 1948 وأرى وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بشكل أبشع من الماضي، حيث لم نر تلك المذابح بل سمعنا عنها في دير ياسين والرملة والطنطورة وعيلبون جارتنا وغيرها من المدن والقرى العربية الفلسطينية، وفي ذات الوقت رأيت بأم عيني سمات الحزن والأسى والغضب على وجوه هؤلاء المهجرين الذين مروا على عرابة، من صفورية ولوبية وحطين والسجرة وميعار وشعب وهم راحلون من قراهم حيث خيموا تحت أشجار الزيتون لعدة أيام ومن ثم أكمل أكثرهم المسير الى لبنان وهناك قسم آخر استقر في قريتنا وما زالوا يعيشون فيها وهم ما زالوا ينتظرون حق عودتهم الى قراهم المهجرة.

في ذلك الوقت قررت جامعة الدول العربية إقامة قوات مشتركة بقيادة الملك عبد الله وكان في ذلك الوقت قائد اركان الجيش الأردني "غلوب باشا" ذو الجنسية البريطانية، و معروف لشعبنا أن بريطانيا هي التي أعطت تصريح بلفور المشهور والمشؤوم للحركة الصهيونية من أجل إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين وكأن هذه الأرض ملكها.

لكن فلسطين كانت بالفعل تحت سيطرة الانجليز المستعمرين والذين عملوا بشكل منظم من أجل تحقيق وعدهم وكان ذلك بالتواطؤ وبدعم من قبل بعض الحكام العرب للمخطط الاجرامي. ومن أجل ذر الرماد في العيون أقاموا ما سمي "بجيش الانقاذ" وكان قائده فوزي القاوقجي صاحب الجنسية السورية، ورفضت الدول العربية ان يكون قائده القائد الوطني الفلسطيني عبد القادر الحسيني. وكان من مهام هذا الجيش ان يقوم بحماية المدن والقرى الفلسطينية، لكنه لم يعمل شيئا وإشتهر بمقولة: "ماكو أوامر" (باللهجة العراقية) حيث كانت أكثرية قادته عراقيين من عراق "نور السعيد" الأجير لبريطانيا.

بل أكثر من ذلك، كان الشباب الفلسطيني عندما يأتيهم خبر هجوم على قرية ما يتجندون للدفاع عنها وكانوا يحررونها أو يصدوا الهجوم من القوات الصهيونية ويسلمونها لجيش الانقاذ ولكن هذا الجيش كان يسلمها للقوات الاسرائيلية بعد يوم أو يومين، وهذا ما سمعته من أخي سليم وآخرين من الشباب الذين كانوا يشكون من تواطؤ القيادات، حيث شارك أخي سليم ومجموعة من الشباب في تحرير قرية البروة وبعد عودتهم الى قراهم بساعات كان جيش الانقاذ قد سلمها للقوات الاسرائيلية. ولهذا أطلق الناس والأهالي على هذا الجيش اسم "جيش التسليم" و"جيش الطبيخ". وانا طبعا هنا لا أتهم الجيش نفسه وانما قياداته.

كنت قد قرأت للكاتبة والباحثة المعروفة بيان نويهض الحوت في كتابها: "القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين" عن حادث جرى مع القائد الوطني الشهيد عبد القادر الحسيني عندما توجه الى الشام لطلب السلاح الثقيل مثل المدافع وغيرها لاستعمالها في ساحة المعركة التي كانت تجري في فلسطين، فرفض قادة جيش الانقاذ وأغلبهم من العراقيين طلب الحسيني وقال له أحدهم: "ماكو مدافع يا عبد القادر" فأجابهم بغضب: "انتم خائفون ومجرمون وسيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين".

وكان قادة جيش الانقاذ يريدون إعطاءه بنادق إيطالية لا تصلح للاستعمال. وهذا ما رأيته بعيني حيث ذهب والدي الى الشام واشترى بندقية ايطالية وأخذها أخي سليم ليجربها حيث كان متدربا على السلاح وكنت معه واذا بها من أول "طلق" تنقسم الى قسمين وجرح أخي وابن عمي الذي كان بجانبه وقالوا انها مغشوشة حيث يوجد في "الفشك" بوتاس بدل البارود. ومثل هذه البنادق كانت تباع لأهالي فلسطين.

هذا الواقع الذي عاشه شعبنا في تلك المرحلة لا سلاح ولا مساعدة من "الأخوة" ومقابل ذلك كانت تمتلك القوات الاسرائيلية جميع أنواع الأسلحة من البنادق والمدافع الى الدبابات والطائرات.

وما أشبه اليوم بالأمس بالنسبة للحكام العرب حيث حتى الآن لم تهتز مشاعرهم من رؤية قتل الأطفال والنساء والشيوخ ومن رؤية واكتشاف المقابر الجماعية بجانب المستشفيات والابادة والتهجير والقتل المتواصل للمدنيين ولكن تأملنا خيرا عندما دعي لإجتماع قمة عربي اسلامي شارك فيه 57 دولة، ولكن النتيجة كانت "طقع حكي" وهم يعرفون جيدا الوضع المأساوي في قطاع غزة والنقص المخيف في الغذاء والماء والدواء ولم تهتز مشاعرهم وضمائرهم لأنها غير موجودة لديهم وفاقد الشيء لا يعطيه.

في المقابل هناك دول لديها الكرامة والحس الإنساني الصادق وقفت وما زالت تقف الى جانب الحق الفلسطيني العادل، في أفريقيا وأمريكا اللاتينية مثل فنزويلا والبرازيل وكولومبيا وغيرها من الدول وكذلك جنوب أفريقيا بكل ثقلها الانساني والتاريخي كإحدى الدول التي قاست من نظام التمييز العنصري، والتي توجهت الى محكمة الجنايات الدولية لتجريم حكام اسرائيل. كذلك نرى الشعوب والجماهير في مختلف دول العالم تخرج الى الشوارع حتى في عقر دار الدول الاستعمارية مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا والمانيا وغيرها من الدول دعما لحقوق الشعب الفلسطيني.

ان ما يجري اليوم ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية هو في الواقع أكبر وأبشع نكبة وأكبر عملية تهجير وإبادة جماعية ترتكب بحق الشعب الفلسطيني أمام العالم كله وأمام الذين يسمون أنفسهم أشقاء. وبالرغم من المواقف العدائية المستمرة التي تقفها الولايات المتحدة الأمريكية، ضد الشعب الفلسطيني وشعوبنا العربية، إلا ان الحكام العرب ومن ضمنهم السلطة الفلسطينية ما زالوا يعوّلون على أمريكا "ومترتحين" بـ...أمريكا.

يقول المثل العربي الأصيل "ما حك جلدك غير ظفرك" وانا على قناعة في مثل الظروف الصعبة التي نعيشها ان شعبنا وقياداته سيجدون الطريق للوحدة الكفاحية حيث ان التاريخ علمنا ان قوة أي شعب تكمن في وحدته وان الشعب الفلسطيني الجبار لن يهدأ ويستكين الا بكنس الاحتلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس العربية على الرغم من مواقف حكام اسرائيل وداعميها. وهذا سيجري باعتماده على نفسه أولا وبدعم من الجماهير الواسعة في العالم التي تدعم قضية هذا الشعب والتي هي الأكثر عدالة والتي حتما ستنتصر. فهذه هي حتمية التاريخ ان كل احتلال الى زوال.

وعندها سنبقى نحيي ذكرى نكبتنا حتى لا ننسى نحن والأجيال القادمة التاريخ. وفي ذات الوقت سنحيي ذكرى استقلال الدولة الفلسطينية التي ستستقل ان عاجلا أم آجلا، ومن الأفضل عاجلا حقناً لشلال الدم الذي ينزف من كلا اشعبي هذه البلاد وحتى تعيش هذه الأجيال والأجيال القادمة بأمن وسلام دائم.

عرابة البطوف

 

الصورة: طفلة تقف وسط أنقاض منزل طاله الدمار في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، 27 نيسان 2024.  (شينخوا)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب