تحت عنوان "الوحدة العسكرية التي ستقود إجلاء مليون من سكان مدينة غزة"، يوفر إيتاي ايلناي محلل الشؤون العسكرية والاستخباراتية والامنية في صحيفة يسرائيل هيوم اطلالة لافتة على ما يدور في ذهن نتنياهو وحكومته والجيش من مخططات عملياتية جاهزة للتنفيذ في غزة المدينة وضمن ما يطلق عليه عربات جدعون الثانية. نظرا لاهمية التقرير وخطورة النوايا نسعى الى إلقاء الضوء على أبرز ما جاء فيه:
في العام ٢٠١٣ تم استحداث وحدة عسكرية استراتيجية أطلق عليها منظمة تحريك السكان (وللاختصار: المخلول)، بقيادة العميد أودي بار موحا في غرفة عمليات القيادة الجنوبية. اذ قام مع فريق واسع متعدد الاهتمامات والتخصصات ببلورة نظرية حركة السكان، كجزء من الخطط العملياتية لاجتياح حربي مستقبلي في قطاع غزة. وقد اعتبرها قسم التخطيط في الجيش "فنّاً من فنون الحرب".
تم تجريب الأساليب المُطوّرة في المخلول وبشكل جزئي ولأول مرة في عملية "الجرف الصامد" عام ٢٠١٤، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من أسلوب القتال في عملية "حارس الأسوار عام ٢٠٢١. وفي إطار ذلك، قُسّم قطاع غزة إلى كتل، بُنيت حدودها القطاعية على المنطق الغزّي، لا على المنطق المفروض من الخارج. بحيث "إنّ حدود الكتلة تُطابق الحيّ والقرية والأزقة".
يستهل إيلناي تقريره الصادر يوم 22/8/2025 بالتساؤل "كيف تُجبر عائلة على مغادرة منزلها، وكيف تُنقل مليون غزّي جنوبًا؟". يستعير الكاتب الردود من قادة عسكريين على قناعة بالتصعيد الحربي وكذلك على خبرات متراكمة في "النقل السكاني" او "التحريك السكاني وذلك منذ سنوات الثمانين اسرائيليا، ومن التجربة الامريكية في الفالوجة خلال غزو العراق. فيما يستشهد بأقوال الخبير في الحرب النفسية رون شلايفر والذي بدوره يبني فرضيته على اسا ان " لا أحد يُحبّ مغادرة المنزل، لذا يجب إقناعهم بأن خيار البقاء أسوأ من المغادرة والذهاب إلى المجهول"..
استنادا الى معطيات الجيش ففي يناير 2024، أي في الاشهر الاولى للحرب، أُلقى الجيش "أكثر من 7 ملايين منشور، وأُرسلت أكثر من 13 مليون رسالة نصية، وأُجريت أكثر من 15 مليون مكالمة هاتفية (معظمها رسائل مسجلة). حتى أن عناصر اللواء 504 الاستخباراتي أعلنوا للسكان إخلاء منازلهم قبيل دخول القوات المناورة، عبر مكبرات صوت مثبتة على مركبات جيش الدفاع الإسرائيلي التي كانت تتنقل بين الأحياء. في هذه الحالة أيضًا، صُممت الرسائل خصيصًا لكل حي، بناءً على العشيرة التي تسكنه".
في المرحلة التالية، نقل القصف المدفعي الذي سبق الدخول البري، والذي كان يهدف في المقام الأول إلى ردع السكان المدنيين، "أوضح رسالة" مفادها ضرورة الإخلاء. يقول ضابط التاريخ أفيعاد: بأن الجيش الاسرائيلي قد استخدم لغرض التهجير"قوة نيران غير مسبوقة في تاريخ الحروب، وبالتأكيد ليس ضد سكان مدنيين. ربما تكون هذه أفضل وسيلة إقناع، أكثر من أي إعلان".
-
استعصاء الهجرة لخارج قطاع غزة
وفقا لمعطيات الامم المتحدة فقد كان نحو 82% من سكان قطاع غزة يعيشون قبل الحرب في مناطق عرّفها الجيش الاسرائيلي بأنها "مناطق إخلاء". كما ويرى ان مبدءا أساسيا في إنجاح عملية "التحريك السكاني" لمليونس غزيّ هو مساعدة هؤلاء بالماء والغذاء والخيم.
يشير التقرير الى وجود منظومتين داخل الجيش وظيفة كل منهما هي "التحريك السكاني" اي التهجير والنزوح القسري؛ واحدة تعمل المنطقة العسكري الشمالية للجيش والاخرى في المنطقة الجنوبية والمتخصصة بغزة، وتقوم باعداد خطط عملياتية ولوجستية ونفسية وقانونية في كل عملية تهجير. وبما ان التهجير وفرض النزوح باتا عنصرا جوهريا في الحرب على غزة فإن التجارب المتراكمة بالاضافة الى التجارب الميدانية بعد 7 اكتوير 2023 تشكل اساسا لبلورة نمط العمل العسكرية وتطبيق الخطة.
يدعم الجنرال ايرز وينر وهو القائد السابق في غرفة العمليات في القيادة الجنوبية فكرة التهجير المتكرر او التحريك السكاني، وينتقد بقوة التقديرات بأن العملية غير ممكنة وبأنها تتسبب بكارثة انسانية بما فيه موقف ادارة بايدن التي رفضتها في حينه. وفقا لوينر يُصنّف الجيش الاسرائيلي "التحريك السكاني" كأحد نجاحات الحرب الحالية. بالنسبة له "لقد نجحت هذه العملية بشكل رائع طوال الحرب" ويضيف: "في بداية الحملة، أجلينا حوالي مليون شخص من شمال قطاع غزة ومدينة غزة جنوبًا، في فترات زمنية قصيرة. بعد ذلك، أجلينا 300 ألف شخص من خان يونس في وقت قصير جدًا، ثم وصلنا إلى حسم النقاش الصاخب حول اقتحام رفح" ويقصد احتلالها وتهجيرها بالكامل وهدمها.
يلتقي سموتريتش مع الموقف الذي طرحه ايرز وينر بأنه "لإقناع سكان غزة بالإخلاء، يجب تحقيق أمرين. الأول هو ضمان عدم دخول المساعدات الإنسانية إلى مدينة غزة، بل إلى مناطق الإخلاء فقط. والثاني هو التوقف عن الحديث عن اتفاق جزئي. علينا أن نعلن بصوت عالٍ أننا لا ننوي وقف العملية في غزة، ولذلك عليكم الخروج، لأن القصف والهجمات ستصل قريباً".
يؤكد الخبير العسكري والامني على فشل محاولات ايجاد دولة ثالثة لتهجير الفلسطينيين اليها ويضيف "لحد الان" في اشارة الى ان المساعي لا زالت قائمة، لكنه يشكّك بها. كما يشير الى معطيات دائرة الاحصاء الفلسطينية بأن عدد الذين غادروا قطاع غزة منذ بداية الحرب الى دولة ثالثة هو نحو 38 ألف فلسطيني؛ وجميعهم يحملون جنسية مزدوجة، أو حصلوا على تأشيرة إقامة من دولة أخرى، أو حصلوا على إذن إخلاء لأسباب طبية. كمكا يتطرق الى البعد القانوني الذي يزداد حرجا وحصريا داخل الجيش الذي يخشى محاسبة ضباطه امام الجنايات الدولية، ومع الانتقال الى مرحلة عربات جدعون الثانية، يزداد الوضع القانوني للجيش حرجًا وحصريا في المهمة المركزية الاولى للحملة وهي "تحريك السكان" اي تطهير عرقي تام لنحو مليون فلسطيني في غزة المدينة. السكان، مؤكدا "وفقًا لعدة مصادر تحدثت إلينا، فإن إخلاء مدينة غزة والسيطرة العسكرية عليها سيشكل التورط القانوني الاكبر والاعمق للجيش ويصبح خارج السيطرة".
في الجانب الاخر يتحدث التقرير عن ظاهرة ان النازحين الفلسطينيين يحملون خيمهم معهم، مما يتيح لهم اعادة تثبيتها في اي مكان مما يعوّق وتيرة حركة الجيش وتقدمه. بناء عليه يسعى الجيش للسيطرة على الخيم وأماكن نصبها، فيما تواجهه معضلة عملياتية وفقا للتقرير وهي أن عملية القصف التمهيدي للاحياء السكنية قد تشي بالجهة التي يسعى الجيش الى طرد السكان اليها مما قد يكشف حركة الجيش العملياتية ويعرّضه للكمائن والاستهداف.
يقول العالم النفسي العسكري شلايفر"علينا ضمان توزيع الغذاء بطريقة منصفة وعادلة قدر الإمكان، دون أي استغلال أو تدخل من حماس" فيما تثبت التجارب السابقة أن كل هذا لا يمكن تحقيقه من خلال الوكالات الدولية. "سيتعين علينا إنشاء مدن خيام ورعاية للسكان المدنيين، وإنشاء نظام تعليمي، وما إلى ذلك، وتنظيم أنفسنا في جميع جوانب وجود المجتمع. ما تحتاج إليه دولة إسرائيل لتحقيق ذلك هو إحياء جناح عسكري تم خنقه وإقصاؤه - حكم عسكري."
يقود هذا التوجه سياسياً الوزير سموتريتش مدعوما من نتنياهو والذي يصر على تحويل ميزانيات كبيرة لصالح "المساعدات الانسانية" وذلك بخلاف بن غفير حيث تتوتر العلاقات بينهما حول هذه المسألة. فيما يحصل اجماع في الحكومة يتم تطبيقه على ارض غزة المدينة بمنع وصول المساعدات اليها وتجويعها الممعن حتى كسر ارادة الناس وجعلها قابلة للتهجير. فعليا هذا المخطط هو جزء من "خطة الجنرالات" الابادية ومن مخططات وزير الأمن السابق غالنت والتي تمّ تجريبها في حي الزيتون جنوب شرق المدينة.
-
لا مفرّ من الحكم العسكري:
وفقاً لعدد من قيادات الجيش السابقين الذين تعاملوا مع هذه القضية، فإن نقل هذا العدد الكبير من المدنيين إلى منطقة صغيرة - تُشكل حوالي 25% من إجمالي قطاع غزة - سيُجبر الجيش على توفير السكن والغذاء والرعاية الصحية للمُهجّرين بمفرده، وسيجرّ الجيش فعلياً إلى فرض حكم عسكري في غزة، وهو أمرٌ تجنّبه كبار مسؤولي جيش الدفاع الإسرائيلي حتى الآن. يقول أحدهم: "في الواقع، يتعرض الجيش لضغوط للقيام بهذه الخطوة، ولهذا السبب يُعارضها بشدة". ويضيف: "إن تداعيات هذه الخطوة هائلة، وقد تؤدي إلى عقوبات دولية، بل وحتى إلى حركة رفض. علاوة على ذلك، هناك سيناريو يتحدث عن حرب شوارع لوقف التهجير، وعندها ستنفّذ عملية الإخلاء على عكس الماضي، ببطء شديد، مما سيُضعف الزخم الإسرائيلي. حتى الآن، وفقا لتقديرات القادة العسكريين السابقين لم تتمكن حماس حتى الان من منع نقل السكان، لكن مدينة غزة هي آخر منطقة لديهم، وهناك تتركز معظم قواتهم. لن يستسلموا بسهولة". في المقابل يطرح اصحاب فكرة "التهجير الطوعي بالقوة" اي القصف "الاكثر كثافة في التاريخ" يبدأ من بعد 100 متر من اخر بيت ثم يتقدم نحو 25 مترا وهكذا، ليتحمل السكان مسؤولية بقائهم حين يصلهم القصف.
يعتمد تنفيذ التهجير البيئة الاجتماعية والسكانية حيث لا تزال قائمة. ويقوم بجمع معلومات عن كل حي وجهة ومربّع سكاني كي يسهل عليه التهجير. يذكّر هذا التخطيط بعقيدة الجيش الاسرائيلي التي ورثها عن قوات الهاجاناه من العام 1941-1942 والمعروفة باسم "دفاتر القرى" والتي قامت على جمع معلومات دقيقة عن كل حي وموقع وعدد المواشي وحتى العلاقات بين الناس، لتكون الخارطة السكانية مؤاتية للتهجير حين يتم احتلال البلدات الفلسطينية.
وفقا لقسم الحرب النفسية في الجيش فإن الناس لا تستعجل التخلي عن منازلها، لذا "الوسيلة الرئيسية للإقناع هي الترهيب"، وهو مركّب جوهري من أساليب إجلاء السكان. وباعتبار انه "عندما تسقط القنابل بكثافة، حتى أكثر الناس ثراءً يغادرون منازلهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكنك إطفاء الراديو والتلفزيون، وأخيرًا الأنوار. كل هذه الأدوات متوفرة في ترسانة الجيش الإسرائيلي".
-
الرقابة والضبط
تتولى قيادة "التحريك السكاني" مسؤولية "رسم خرائط السكان وجمع المعلومات الاستخبارية عنهم مسبقًا، وتنسيق العمليات الرامية إلى تعبئتهم. ولتحقيق ذلك، يجمع المجمع عددًا كبيرًا من الجهات، بما في ذلك الاستخبارات، وجيش الدفاع الإسرائيلي، والمدفعية، والقوات الجوية، والقوات البرية، وغيرها. وتشغل أعضاء النيابة العسكرية جزءًا أساسيًا منه، ويضمنون امتثال العمليات الميدانية للقانون الدولي".
-
حواجز افتراضية فتّاكة وغير مرئية
يستخدم المجمع أيضًا أدواتٍ لمراقبة حركة السكان منذ بدايتها. يقول الجنرال في الاحتياط ايرز وينر: "في الحرب الحالية، كان "المخلول" مُجهّزًا بالفعل على مستوى الإدارة الدقيقة للعملية. ما هي عملية الإخطار؟ من يُبلغ؟ متى وكيف؟ وكيف نتابع ونتأكد من وجود استجابة فعلية من الجانب الآخر، ومن أن السكان يتحركون؟ لأنه في النهاية، يجب إعطاء مؤشر على نسبة السكان الذين غادروا، حتى يتسنى فتح مناطق معينة لإطلاق النار". ويتابع: "لا أعتقد أنه من الصواب الخوض في هذا، لأننا بذلك سنُزوّد العدو بأدوات. لكن الطريقة المتبعة هي تشغيل أنظمة مراقبة ورصد ومراقبة لحركة السكان، وتكوين صورة للوضع، وفي أي وقت، يعرف مُجمّع حركة السكان نسبة السكان المتبقين في كل منطقة."
فيما تشكّل أنظمة الرقابة عن بعد والمستندة الى تقنيات الذكاء الاصطناعي حواجز غير مرئية للنازحين. التي تُقام على طول طرق الإخلاء. يُجهّز جيش الدفاع الإسرائيلي هذه المصارف بتقنية التعرف على الوجوه للكشف عن مقاتلين "ينتحلون صفة مدنيين أبرياء"، بل وحتى نقل أسرى ومحتجزين اسرائيليين وسط تدفق المدنيين - الذي قد يصل إلى مئات الآلاف يوميًا.
يصل ايتاي ايلناي الى الاستنتاج بأن المخطط الاسرائيلي الحالي "عربات غدعون2" يقود بالضرورة الى حكم عسكري احتلالي اسرائيلي، سيكون ذلك بمعارضة الجيش ومساعيه للتعطيل او اطالة أمد خطة التهجير حتى تفقد جوهرها. الخطة تفرض احتلالا طويل الامد يرافقه حكم عسكري وحرب استنزاف طويلة الامد ولا تحقق اهداف الحرب الرسمية.
في الخلاصة:
- يسلط تقرير يسرائيل هيوم الضوء على أحد اخطر التحولات في حرب الابادة، ويكشف النوايا الحقيقية للطبقة الحاكمة ممثلة بنتنياهو وحكومته وهي القضاء على الوجود السكاني وعلى الوجود المكاني للفلسطينيين في قطاع غزة.
- منظومة تحريك السكان (المخلول) هي مخطط تطهير عرقي إبادي جاهز للتنفيذ، تستخدم مفردات تبدو أقل وقعاً من الابادة والتهجير، وتستخدم مفردات المساعدات الانسانية والمأوى لغرض الاقتلاع. كما ان المخطط سيدفع الى اعمال ابادة جماعية بالضرورة.
- منظومة "التحريك السكاني" هي تعبير عن استراتيجية متكاملة الاركان وقابلة للتطبيق حربيا بأدوات مختلفة في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي جنوب لبنان وجنوب سوريا وحتى في الداخل الفلسطيني وحصريا في المدن الساحلية والنقب.
- يتضح من التقرير أن الضغوطات الدولية الممارسة على اسرائيل والانتقال نحو اجراءات عقابية وبموازاة الاعترفات بدولة فلسطين، هي في المجمل لها أثر على السياسة الاسرائيلية التي تسعى الى الاحتماء اكثر بإدارة ترامب وفي المقابل الى تدفيع الثمن للفلسطينيين اينما كانوا بهدف تقويض اسس دولة فلسطينية او اي حل سياسي وفرض الحلول الأمنية الصرف.
- يبدو ان الاخفاق الاحتلالي في نقل الفلسطينيين خارج غزة، سيُستعاض عنه بالتحريك (التهجير) المستدام والمتكرر لسكان القطاع في أقل مساحة مما يضمن تقليص عدد سكانه بنظرة مستقبلية وبشكل جوهري.