في معرض محاولته لتفسير تأويل البشر للسببية التي تقف وراء الحوادث العارضة والدورية في المجتمع الإنساني طور الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت (1724- 1804) نظرية "النظارة" التي ينظر من خلالها البشر للأشياء والوقائع ومسبباتها، وخلص للقول بأن الكل يبدأ من لون النظارة الذي ننظر من خلاله ونفسر الأشياء، وأكد بأن الحكم على ذلك ومحاولة معالجته ترتبط ارتباطًا وثيقا بلون النظارة إن كان داكنًا أو زاهيًا وبناء على ذلك تبنى النظريات وآليات العمل ويتقرر مدى المرونة ووضوح الرؤيا التي يتم من خلالها التعامل مع الأشياء. فالألوان الداكنة عادة ما تقود للتعميم والحسم والقطع والارتباك والاضطراب وعدم وضوح الرؤيا وقلة المرونة والنفس القصير بالتعامل مع الأشياء ولا تقدم معالجة الموضوع كثيرا بل تؤخره في أحيان كثيرة. أما الألوان الشفافة فكثيرا ما تقود لوضوح الرؤية والمرونة والنفس الطويل وآليات المعالجة وتقود على نتائج غالبا ما تكون إيجابية حتى لو انتابتها بعض الشوائب هنا وهناك.
أقول هذا محاولًا تفسير موجة التعليقات المنطلقة، على الأغلب، من نظارات سوداء نظر أصحابها من خلالها إلى أحداث العنف المؤسفة والمخجلة التي رأيناها في أكثر من مكان خلال فترة العيد وفي أماكن الاستجمام. أقول مؤسفة ومخجلة وأدعو إلى معالجتها بحنكة وروية بشكل يضمن اجتثاثها. وأنا على تمام الثقة بأن هذا لن يتم من خلال التهويل والتعظيم والتعميم والسوداوية المطلقة.
في البداية علينا أن نعرف الأسباب التي أدت بنا لكل هذا ثم علينا أن نتوقف ونسأل أنفسنا لماذا يهمنا التغيير؟ وكيف لنا أن نحدثه بشكل يفي بالغرض ويأتي بالنتائج المرجوة. والتغيير لا يتم بكبسة زر بل هو بحاجة لخطة واضحة المعالم وبحاجة إلى وقت وإلى طول نفس.
البداية يجب أن تكون في جهاز التعليم الذي من المفروض أن يعمل على تذويت القيم التي يجب أن تعكس وجه حضارتنا المنير. وكي يتم ذلك في نجاح على وكلاء التربية أن يكونوا قدوة لطلابهم ولأهاليهم ولكل من يواجهون من بشر في حياتهم. والحديث عن "تذويت القيم" بشكل مباشر وغير مباشر وليس عن "تلقين القيم". فلا يصح أن يرى طلاب صائمون في رمضان الأخير مربيا أو مربية تعلمهم / يعلمهم عن قيم التسامح ومراعاة مشاعر الغير واحترامها بينما يسير \تسير مع فنجان قهوة تفوح منه "نكهة القهوة" في ردهات المدرسة وصفوفها. ولا يصح أن يتعلم طالب لدى معلم يشبعه تلقينا في ضرورة لجم "غول العنف" بينما عندما تقع واقعة الخلافات العائلية والحمائلية والطائفية يراه أول من يحمل العصي أو من يتبوأ مكانا مركزيا في التحريض الفئوي والفصائلي.
كما على المؤسسات التمثيلية العليا أن تقوم بدور فاعل يتعدى إقامة اللجان التي تخلق مشلولة أو الظهور في مؤتمرات تردد نظريات وشعارات جوفاء ينتهي صداها مع خروج قائليها في قاعة المؤتمرات والأيام الدراسية التي لم نر أثرًا فاعلا لها حتى اليوم. كما وللأهل دور اساسي في إكساب أبنائهم قيم التسامح والمرونة في التعامل وقبول الاختلاف والتعددية وعدم مناصرتهم وإيجاد التعليل لخطواتهم وأعمالهم بشكل غريزي وتحت كل ظرف.
إذا نظرنا بعد كل هذا لما يجري وبنظارة شفافة أو ذات لون زاهِ نستطيع أن نصل إلى عبرة بأن هذا واقع مؤلم ولكنه حقيقي ينبئ عن جملة من البواعث والمسببات التي يحسن التعامل معها عندما نشخصها تشخيصا صحيحا نتعامل معها كواقع قابل للتغيير اذا احسنا اختيار آليات العلاج الصحيحة والمطببين المهنيين والظروف والأطر التي نستطيع أن تدفع المعالجة إلى الأمام وليس إلى واقع حالك السواد، مرتبك ومضطرب لا يحسن إلا جلد الذات وتصويب السهام نحو عالم غير واضح بسبب ألوان النظارات الداكنة.