تقول لي: مقالك في زاوية صباح الخير يمدني بالقوة تماما كما يمدني جدي بالقوة وجدي الأكبر الذي يقبل عثرتي ويمدني بالقوة. هزتني تلك الرسالة التي كتبتها لي. أعطتني القوة هي أيضا لكي أظل أمارس عملية الكتابة. أعطتني القوة لكي أبقى اكتب تماما كأولئك السجناء السياسيين الذين دافعت عنهم نيف وعشرين عاما. منهم من قضى نحبه داخل السجن ومنهم من استشهد خارجه ومنهم من لا يزال على قيد الحياة وما بدلوا تبديلا.
كتبت ذات صباح عن أصيص حبق قرب شباك غرفة نومك وعن نخلة على قارعة الطريق وعن شجرة زيتون في رأس تل يمدونك بطاقة وبقوة وبقدرة على الاستمرار فكيف الآن وأنت أمام إنسانة طفلة في الصف الثامن؟ وكيف الآن وأنت حيال فتاة في عمر الورد ولون الورد وعبق الورد الجوري الأحمر؟
أدركت اليوم، واليوم فقط، أن الكاتب يتنفس من خلال القراء.. والمحامي من خلال السجناء وصاحب الطريقة من خلال المريدين… والأنا من خلال الآخرين… أدركت اليوم أنني أتنفس من خلال رئة صغيرة، سوسنة برّية عبقة. فازددت شبابا وأنا من جيل جدها. فاكتب اليوم حتى أقول لها إننا جميعا نستمد الطاقة الواحد من الآخر.. والواحدة من الواحد والواحد من الواحدة… اكتب اليوم في زمن تشن فيها إسرائيل حربا على أطفال غزة وفلسطين بحجة مهترئة هي مقاومة الإرهاب… حرب إبادة من قبل نازيين جدد، ضحايا النازيين القدم. تحت الشمس، اكتب كي اقول لا جديد تحت الشمس، هي طبيعة العدوان.. هي طبيعة الحركة الصهيونية التي مارست عمليات التطهير العرقي ضد الفلسطينيين منذ عام ثمانية وأربعين.. ومنذ ما قبل وما بعد.
اكتب لها لكي أقول إنّ الكتابة والقراءة تجديان وإنّ العلم هو سلاحنا والثقافة سياجنا… وإنّ عصر إبادة الشعوب انتهى… انتهى! يقتل النازيون الجدد أبناء الجيل القادم من شعبنا، يحرقون جسور السلام وإنّ لا طائل ولا جدوى فهذا الشعب قرر أن يعيش بكرامة كجميع شعوب العالم، قرر أن يكنس الاحتلال. يدمرون الحجر والشجرة والإنسان عبثا، يشوهون الإنسان ضربا بالحائط وبجميع القيم… يحاولون أن يعيدوا غزة هاشم إلى العصر الحجري… مجرد محاولات لقتل روح المقاومة، مجرد محاولات! فالمقاومة من روح الله ومن روح الإنسان. اكتب لك يا صغيرتي وانت من طلائع الجيل القادم، وانت التي تعيش الماضي والحاضر معا لنشق طريقها نحو المستقبل كما قلت والتي تقرأ تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية ورأس المال لكارل ماركس، والتي تعتبر نفسها من عشاق "الاتحاد" لأن ماضيها وحاضرها مشرفان… وتكتب أيضا كيف كان جدها يحدثها عن أيام العسكري وعن مدى حبة لهذه الصحيفة وكيف أن والد جدها عاصرها أيضا وعشقها من أول عدد... وكيف أن الثمرة لا تسقط بعيدا عن الشجرة. لقد كان من أعضاء عصبة التحرر الوطني ومؤتمر العمال العرب.. فكان من أوائل زرّاع بذرة الحزب الشيوعي في طرعان. وتصف كيف جدتها جدّها الأكبر عن الجوع والظلم والاستبداد الاسرائيلي. صلب كالفولاذ كان. وكان قد بكى مرتين، الأولى عندما انهار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي والثانية عندما انهارت بغداد. أما اليوم  فلا بكاء بعد اليوم، لان اشد ساعات الليل حلكة هي التي تسبق طلوع الفجر!