news

أهــلاً بالأتــراك

لا مفر من الترحيب بعودة تركيا الى المشرق العربي، بعد غياب دام نحو تسعين سنة، حتى ولو كانت تلك العودة تتخذ طابعا عفويا أو انفعاليا، ولا تزال محفوفة بالمخاطر والتحديات، ولا يمكن أن تصبح راسخة وثابتة إلا اذا تمكن المشرقيون من ملاقاة أشقائهم الأتراك في منتصف الطريق.. وهذا ما يبدو مستحيلا.
ولا بد من الإقرار بأن هذه العودة تكتسب أهميتها الخاصة من ضعف رد الفعل العربي، المعتدل والممانع على حد سواء، على الوحشية الإسرائيلية والتغطية الأميركية والغربية عموما، ومن حاجة الجمهور العربي الماسة الى نصير خارجي، يقف معه في اللحظات الحرجة، ويحترم دمه الذي يسفك بغزارة في قطاع غزة..ويعطيه الانطباع بأن الانقلاب الذي تمنى حصوله في واحدة أو أكثر من العواصم العربية المشرقية، قد حصل بالفعل في أنقرة.
لكن هذا التحول التركي الذي قد يبدو مفاجئا، ليس انقلابا، لان له جذوره التاريخية التي يمكن العثور عليها في خطاب رائد الإسلام السياسي التركي الزعيم نجم الدين أربكان، الموضوع الآن في الإقامة الجبرية، بعدما شغل منصب رئيس أول حكومة إسلامية في تاريخ الجمهورية العلمانية التركية، وأسس حزبين إسلاميين شبه محظورين، هما الرفاه والسعادة، خرج منهما قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم حاليا، وتنكروا لإرث مرشده في كل شيء، عدا الموقف من العدو الاسرائيلي، الذي خضع حتى الآن لما يشبه التقية التركية التي تحول دون الجهر بالعداء، لكنها تتيح التعبير بين الحين والآخر عن الاستياء.


لا يطل الإسلاميون الأتراك على المشرق العربي من فراغ، ولا يغفلون حقيقة أن بلادهم لا تزال عضواً في حلف شمالي الأطلسي، وجزءاً من المحور الغربي الذي فتح لها نافذة ضيقة من أجل الالتحاق بالاتحاد الأوروبي بشروط صارمة، يرجح أن تزداد في المستقبل، بعدما استخدم أردوغان في أحد تصريحاته الاحتجاجية على الحرب الاسرائيلية الاخيرة على غزة، تعبيراً محظوراً في الغرب ومحرّماً في الشرق: »نحن أحفاد العثمانيين«.
هي مغامرة سياسية حرجة، لم يسبق لها مثيل منذ انهيار الامبراطورية العثمانية: الإسلاميون الأتراك الذين استردوا هويتهم الداخلية الأصلية شرعوا في محاولة استكشاف إمكان تغيير وجهة بلدهم السياسية، بعدما لمسوا صعوبة البقاء في المنطقة الرمادية بين الشرق والغرب، واكتشفوا أن تركيا لم تعد تستطيع أن تكون جسراً معلقاً بين عالمين متصارعين، ليس له سوى دعائم وهمية، حسب تعبير الكثيرين من قادة حزب العدالة والتنمية الذين كانوا يشعرون بالإهانة لمجرد سماعهم كلمة »جسر«..
لا يكفي الخروج المدوّي لرئيس وزراء تركيا من مناظرة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في دافوس، للاستنتاج أن تركيا حسمت خيارها السياسي، أو الافتراض أن إسلامييها قادرون على مثل هذا الحسم، بدليل بعض مواقفهم الاعتذارية الأخيرة التي بلغت حد التنصل من حركة حماس ودعوتها الى إلقاء السلاح.. لكن المخاض التركي بدأ بالفعل، وهو يحتاج الى شريك عربي مشرقي، لا يمكن أن يتوافر في المستقبل المنظور.