يقول أبو عثمان عمرو بن بَحْر رحِمه الله: اللهم إنّا نَعوذ بك من فِتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلُّف لما لا نُحِسن كما نعوذ بك من العُجْب بما نحسن ونعوذ بك من السَّلاطة والهَذَر كما نعوذ بك من العِيّ والحَصَر وقديماً ما تَعَوَّذُوا بالله من شرّهما وتضرَّعوا إلى الله في السلامة منهما.
تأتي علينا الأيام ماحلة بالمطر مليئة بما لا يسر، وتأتي هذه الانتخابات في ظل هجمة شرسة على شرف الحرب العدوانية على قطاع غزة، مليئة بالعنصرية والتحريض الأرعن، فنصبح نحن كمواطنين عرب، الأداة التي يمتطيها كل جهبذ وكل شهبندر! فها هي اًصوات العنصريين تتفشى في الشارع اليهودي، ويصبح موقف المواطنين العرب من حرب غزة سؤالا مصيريا لاعطائنا شهادات تقدير لمواطنتنا، وتُلقى جانبًا مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، ويُلغى حقنا في التعبير عن الرأي وعن ممارسة حقوقنا الأساسية كمواطنين وكبشر، في أهم واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، خالية من النفط لكنها مليئة بالعنصرية.
ظهرت في بعض المواقع على الشبكة وبعض الصحف العبرية صورة للنائب اليميني آريه الداد وهو يحمل أفعى ويقول أنه لا يخشى الأفعى وأنه واجه ما هو أشد منها، مشيرًا الى أعضاء الكنيست العرب، وليثبت أمام الجمهور الذي عرض أمامه هذا المشهد في وسط مدينة القدس الغربية أن كل واحد منهم بامكانه التغلب على الخوف، حتى في مواجهة العرب.. ويأتي هذا المشهد استمرارًا لأقوال الداد المتكررة ضد المواطنين العرب، والمس بقيادتهم، والتحريض على تقديم اقتراح قانون لضمان ولاء المواطنين اليهود لدولة اسرائيل ووقف التحريض في المساجد - وصفه بعض الصحفيين "اقتراح طوارئ ضد الاسلام" - واصفًا القانون بأنه يأتي لضمان أمن اسرائيل بعد أحداث مومباي. قد لا يكون الداد هو الأكثر شعبية في هذا المضمار لكن هذه الجوقة المتناغمة الأصوات أصبحت تشكل الصوت المركزي في الشارع اليهودي اليوم، ونكاد لا نسمع أي صوت نشاز أو عقلاني يتعامل مع هذه التصريحات بموقف مسؤول، مما يدل على رضوخ واستسلام أمام هذه الظواهر، فيما عدا رفاقنا الجبهويين والشيوعيين الذين لا يترددون أبدًا في تحدي هذه التصريحات بوقفة شجاعة متشبثين بمبادئنا الانسانية التي لا تنهزم ولا تنكفئ أمام قوى الفاشية والعنصرية النكراء.
كان لي حديث عابر بعد المظاهرة الجبارة ضد الحرب على غزة في تل ابيب، مع شخص كان يعتبر نفسه أكثر يساريّة فيما مضى، وقال لي حينها بأن الشارع اليهودي غير متردد بالنسبة لهذه الحرب وأن الشارع اليهودي لن يتحمل أي تهديد يمس بأمن اسرائيل. من خلال الحديث تعرفت على الشخص أكثر وعرفت أنه ترافع عن بعض الشخصيات اليسارية البارزة، وكان ينشط في العديد من الفعاليات اليسارية في الماضي. وألخّص حديثي معه بأنه كان ذا فائدة نوعية بالنسبة لاستيضاح بعض جوانب الأمور في الشارع اليهودي لكنه أربكني لعدم وجود أسباب واضحة لتقييم الناتج بتراجع اليسار تراجعًا ملحوظًا في الشارع اليهودي اليوم. أما اليوم وبعد حرب غزة وبعد فقدان أصوات "اليساريين الاسرائيليين"، وبقاء اليساريين الحقيقيين من رفاقنا، فقد أصبح الموقف أكثر سوءًا، ولا يوجد من يتحمل مسؤولية نفسه ومسؤولية صمته، أمام المد الفاشي المتزايد.
رغم مرور السنين والتجارب الا ان التاريخ القريب الذي عشته يعود وفي جعبته احداث متشابهة التفاصيل، فأحداث أوكتوبر كان لها نفس الصدى وذات الأثر، لكن هذه المرة نرى الأمور وقد زادت من حدتها، وأنياب العنصريين صارت أكثر بروزًا، فهذه الحالة التي نعيشها اليوم تبدو وكأنها حالة مستمرة لأحداث انقطعت عنها بعض السنوات، فعادت الى نفس المسار في حلكة أكثر ظلامًا. لن أعود الى الوراء أكثر لكن التجارب تثبت أننا لا نتقدم في هذا المسار الاّ الى الوراء، وأن أجواء العنصرية الصاخبة تزيد من انحراف القوى المتطرفة يمينًا، وتبعد قوى مركز الوسط الى اليمين، مع تلاشي قوى اليسار الحقيقية رويدًا رويدًا. لا أريد أن ابدو تشاؤميًا أكثر من اللازم، لكن المشهد سوداوي كما يراه معظم المشاهدين واللاعبين.
ما يجب توضيحه في هذه الأيام هو موضوعية الصورة المرئية التي تعبر عن واقع مرير نجابه فيه أثمار عنصرية متزايدة، وتكليف أنفسنا مهمات صغيرة وكبيرة يجب علينا تحسين أدائنا فيها، وتحصيل نتائج قدر المستطاع، لا أدعي أنه بالامكان تغيير هذا الواقع المليء بالأزمات، لكن يجب أن نتعالى عن المغالاة في تأزيم الوضع، وأهم ما يجب أن نقوم به هو الخروج من دائرة العجز والاحباط، بتحدي وابراز مواقفنا الواضحة من كل ما يحدث، فلا يمكننا الوقوف جانبًا ونحن نرى أن حملة شرسة تحاك أيضًا ضد جماهيرنا العربية.
رغم كوننا أقلية في هذه الدولة، ورغم مواصلة الدولة لسياستها العنصرية التي تغذي زيادة التطرف اليميني الهمجي، وانبعاث روح مجابهة الأخطار التي تهدد اسرائيل في أوساط كثيرة في المجتمع اليهودي، وابرازنا كأحد الأجزاء الأساسية المسببة لهذا الخطر، ووضعه في سياق المواطنة والاخلاص للدولة يحتم علينا النظر بعين ثاقبة الى ما ينتظرنا بعد هذه الحملات المتواصلة، فلا يمكننا الخروج من دائرة اللعبة السياسية في أجواء تحتم علينا اثبات دورنا المتميز كأبناء هذا الوطن وكجزء اساسي من الشعب الفلسطيني الباقي في وطنه، وإتاحة الفرصة لمن يخططون لإبعادنا تدريجيًا عن الخارطة السياسية لتمهيد اخراجنا من الخارطة الجغراقية، وطرح شتى الامكانيات لفعل ذلك، فاقتراحات التبادل السكاني هي عنوان واضح لهذا النهج، واقصاؤنا من اللعبة السياسية اليوم هو محاولة (ليست الأولى) لاضعاف مكانتنا السياسية التي يجب التأكيد على ممارستها اليوم، من منطلق مجابهة خطر قادم يجب علينا الصمود بحنكة أمامه.
نسمع من العديد من القوى التي تتداعى علينا وتزاود على نهجنا العقلاني توبيخا وتخوينا للعديد من المواقف الشجاعة التي رأتها قيادتنا التاريخية ابتداءً من موقفنا ازاء قرار التقسيم والى موقفنا الأخير من الحرب العدوانية على غزة انه "لم يكن حماسيًَا كباقي الاحزاب وكان في مصلحة أبو مازن"؛ نقول لكل هؤلاء ولأنفسنا باننا لا نتهاون في المواقف ولا نخاطر في تعزيز قوى العنصرية على حساب مواقفنا، ولا نرى في وضع جماهيرنا على مأدبة اللئام "مسؤولية وطنية" نتحلى بها، لكننا لا نستكين ولا نحمّل جماهيرنا عبء أحمال نحن في غنى عنها، ولا نتخاذل أمام شراسة الآخرين، ولا نعمل ما لا نقول، ولا نتكلف ما لا نعمل.
لقد اثبتب الجبهة انها العنوان المسؤول الذي يتحمل مسؤولية هذه الجماهير، وعبء احمالها رغم كل التحديات، فمستقبل الأجيال القادمة هو أمانة لا يمكن التلاعب بها، وبقاؤنا في وطننا وتعميق جذورنا هو المسؤولية الحقيقية التي نتطلع اليها، فلا بد لنا من بذل الجهود لإحقاق حقوقنا وتحدي كل الأخطار بعنفوان. لا نساوم على هذه الأمانة ولا على مسؤوليتنا.