بعد سقوط حيفا بأيام قليلة في ايدي قوات الهاجاناه، قررت قيادتها تجميع من بقي من العرب في حيفا وعددهم لا يزيد على 3 آلاف نسمة، في حي وادي النسناس وحي عباس. ودُعي وفد من وجهاء العرب الذين بقوا في المدينة: فكتور خياط وشحادة شلح، ونور الدين العباسي (ابو عصام) وبولس فرح وتوفيق طوبي، للاجتماع مع ممثلي الهاجاناه، لابلاغهم بقرار قيادة الجيش اياه.
وكان توفيق طوبي اول المتكلمين الذي رفض عملية التجميع واصفا اياها بوضع العرب في غيتو، وبأنها خطوة عنصرية مرفوضة، وتبعه بقية اعضاء الوفد الذين رفضوا عملية "التجميع القسرية".
ومع ذلك فقد جرت عملية التجميع بأوامر من الجيش وتحت اشرافه. واثارت جرأة توفيق طوبي دهشة ممثلي الهاجاناه، الذين تساءلوا من يكون هذا الشاب الذي يجرؤ على معارضة قيادة الجيش.
هذه الجرأة كانت الصفة الملازمة لابو الياس على امتداد عشرات السنين من نشاطه ونضاله، ونبعت من محبته واخلاصه لجماهير شعبه، واستعداده للدفاع عن هذا الشعب مهما تطلّب ذلك من تضحيات. ففي الكنيست بعد انتخابه عضوا فيها كان صوته دائما يجلجل مدويا بكل شجاعة فاضحا سياسة الحكومة العنصرية تجاه الجماهير العربية، سياسة الاقتلاع والتشريد والحكم العسكري ونظام تصاريح السفر ونهب الاراضي... مطالبا بحق هذه الجماهير العيش في وطنها بكرامة ومساواة، وعديدة هي المرات التي أُخرج فيها من قاعة الاجتماعات في الكنيست لرفضه السكوت، واصراره على طرح الحقائق وفضح السياسة العنصرية الرسمية تجاه الجماهير العربية.
انهى ابو الياس دراسته الثانوية في كلية صهيون في القدس عام 1939 وعمره 17 عاما، وكان برنامجه دراسة المحاماة، الا ان وفاة والده جعلته يتخلى عن هذه الفكرة والعمل لاعالة عائلته وتربية اشقائه وتعليمهم.
غادر ابو الياس كلية صهيون حاملا الافكار الشيوعية بتأثير استاذه الاديب اللبناني رئيف خوري وصديقه الشيوعي عبد الله البندك. ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى انضم عام 1940 الى صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني. وشارك عام 1942 مع الرفيق اميل توما وبولس فرح في تأسيس نادي شعاع الامل للعمل مع الوف العمال العرب الذين كان يعملون في شركات البترول وفي معسكرات الجيش، وقام اتحاد النقابات الذي اصبح لاحقا نواة لتأسيس مؤتمر العمال العرب. كما شارك الرفاق اميل توما وتوفيق طوبي واميل حبيبي وبولس فرح وآخرون في تأسيس عصبة التحرر الوطني عام 1943 واصدار صحيفة "الاتحاد". وكان قد حدث عام 1943 انقسام في صفوف الحزب الشيوعي على اساس قومي، فبقي الشيوعيون اليهود في الحزب، اما الشيوعيون العرب فبقوا بدون اطار تنظيمي الى ان قامت عصبة التحرر الوطني.
ويدهش المرء عندما يرى ان الرفاق مؤسسي العصبة والذين اصدروا صحيفة الاتحاد، كانوا حديثي السن، ولكن على الرغم من ذلك، وضعوا برنامجا سياسيا دمقراطيا واقعيا للعصبة، يدعو الى انهاء الانتداب البريطاني في فلسطين، وقيام دولة واحدة دمقراطية علمانية يعيش فيها العرب واليهود جنبا الى جنب وعلى قدم المساواة. وهذا البرنامج كان مخالفا كليا لبرنامج القيادة الفلسطينية التقليدية برئاسة الحاج امين الحسيني.
وعندما اتخذت الجمعية العامة للامم المتحدة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 قرارا بتقسيم فلسطين واقامة دولتين واحدة للعرب وثانية لليهود، وافقت العصبة على ذلك، ليس لان هذا الحل هو الافضل، بل لرؤيتها بان قبول هذا، الحل هو الطريق الوحيدة لافشال المؤامرة الرهيبة التي خططتها الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية، لمنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وتشريد الشعب العربي الفلسطيني من وطنه. وكان توفيق طوبي من الموافقين على قرار الاجتماع الموسع للعصبة الذي عقد في الناصرة ووافق على هذا الموقف.
ومرة اخرى ظهرت جرأة ابو الياس ونضوجه السياسي. فبعد سقوط حيفا بايدي قوات الهاجاناه، اصدر توفيق طوبي وعصام العباسي ويوسف عبدو منشورا دعوا فيه السكان العرب الى البقاء في بيوتهم في حيفا ورفض الترحيل وحمل ابو الياس المنشور واوصله الى الشيوعيين في الناصرة وعكا حيث تم توزيعه.
ولا بد من ذكر الدور الحاسم الذي لعبه توفيق طوبي ويوسف عبدو وعصام العباسي وسركيس ابريان في تثبيت بقاء من بقي من العرب في المدينة. اذ كان من الممكن ان يرحل الكثيرون منهم لعدم توفر الاحتياجات الضرورية لمعيشتهم ولا سيما الغذاء. فلم تكن هناك حوانيت، ولم يكن هناك طعام يمكن شراؤه. فقام الشيوعيون بتأسيس تعاونية "قوت الكادحين" التي افتتحت دكان بقالة في شارع الخوري واخرى في الالمانية، كما شغلت فرنا في شارع الخوري. واصبح في الامكان الحصول على الطحين وعجنه وخبزه في الفرن.
توجه ابو الياس الى قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني (الرفاق اليهود) مقترحا اعادة الوحدة الاممية للحزب. وقُبل الاقتراح وتمت وحدة الشيوعيين اليهود والعرب في اطار الحزب الشيوعي الاسرائيلي في تشرين الاول/ اكتوبر 1948 في اجتماع جماهيري عقد في سينما ماي. وجاءت هذه الخطوة انطلاقا من ايمان ابو الياس العميق باهمية وحدة النضال اليهودية العربية، وبقيام وتعزيز الاخوة اليهودية العربية.
اتصف ابو الياس خلال مسيرته النضالية الطويلة بالاخلاص لمبادئه ولحزبه ولشعبه ولقضية السلام واخوّة الشعوب، مناضلا من اجل حق الجماهير العربية بالعيش في وطنها بكرامة ومساواة دون اضطهاد وتمييز. وقامت صحيفة "الاتحاد" التي عادت الى الصدور عام 1949 ورئيس تحريرها ابو الياس بدور هام في توعية الجماهير العربية والمحافظة على هويتها القومية ولغتها العربية، وتثقيفها على واجبها في الدفاع موحدة الصفوف عن حقوقها اليومية والقومية.
انتخب ابو الياس للكنيست الاولى في بداية 1949 وبقي عضوا حتى عام 1990 عندما قدم استقالته من الكنيست.
في عام 1956 عشية العدوان الثلاثي على مصر، من قبل برطانيا وفرنسا واسرائيل لاسقاط نظام عبد الناصر والغاء تأميم قناة السويس، سجل ابو الياس والرفيق ماير فلنر مأثرة خالدة عندما تسللا عبر الحقول وكروم الزيتون الى قرية كفر قاسم بعد ان وصلت الى آذانهما اخبار المجزرة الرهيبة التي ارتكبها حرس الحدود بقتلهم بدم بارد 49 شخصا من نساء ورجال شبابا وشيبا من سكان القرية بأوامر صدرت من اعلى المستويات في الحكومة، كاسرين الطوق الذي ضربه الجيش على القرية لمنع وصول انباء المجزرة للخارج. وكان الهدف من وراء القيام بهذه المجزرة خلق جو من الرعب والهلع يسهل على السلطات طرد سكان كفر قاسم والعديد من سكان قرى المثلث من قراهم.
دخل ابو الياس والرفيق ماير كفر قاسم الذبيح التي كانت تعيش جوا من الخوف، فقاما بتعزية سكان القرية وتشجيعهم على التمسك بقريتهم وعدم الرحيل باي حال من الاحوال. وجمع ابو الياس التفاصيل الكاملة عن المجزرة واسماء الشهداء، واصدر مذكرة تشمل كل هذه التفاصيل باللغات الثلاث العربية والعبرية والانجليزية وارسلت هذه المذكرة الى مئات الهيئات والشخصيات في اسرائيل والعالم، وهكذا كُسرت محاولة التعتيم الرسمية وعرف الرأي العام في اسرائيل والخارج بالجريمة البشعة التي ارتكبها حكام اسرائيل. وفي آب 2001 اصدر توفيق طوبي كتاب "كفر قاسم – المجزرة والعبرة" (اصدار معهد اميل توما) وهو اشمل مرجع عن المجزرة.
وقامت علاقة انسانية قوية بين ابو الياس واهالي كفر قاسم. وكان يزورهم كل عام في الذكرى السنوية للمجزرة، ولاحقا كان يرسل في هذه المناسبة رسالة الى "اهلنا في كفر قاسم" معزيا وداعيا الى الصمود والنضال وتخليد ذكرى الشهداء باقامة متحف خاص بهم. وقامت بلدية كفر قاسم بتكريم ابو الياس بمنحه مواطنة شرف في كفر قاسم هو والرفيق ماير فلنر ولطيف دوري الذي قام بزيارة القرية بعد المجزرة.
وأكد أبو الياس اكثر من مرة ان صمود اهل كفر قاسم افشل مخططات السلطة في طرد سكان المثلث من بيوتهم وقراهم، ومؤخرا نظمت امسية تأبين لابو الياس بمبادرة رئيس بلدية كفر قاسم والحزب والجبهة بحضور جمهور غفير والعديد من الشخصيات واعلن رئيس البلدية ان صورة ابو الياس وضعت في متحف الشهداء.
في العام 1965 قامت كتلة ميكونس – سنيه في الحزب بالانقسام بعد ان رفضت الاكثرية محاولاتهما حرف الحزب عن سياسته الاممية والثوابت في حل القضية الفلسطينية. وظهرت انحرافاتهما الصهيونية عام 1967 عندما ايدوا عدوان اسرائيل على مصر وسوريا والاردن.
وواجهت قيادة الحزب، ماير فلنر وتوفيق طوبي والرفاق الذين تمسكوا بسياسة الحزب الاممية، واجبا كبيرا لبناء الحزب وتوسيع صفوفه وتقوية تنظيمه وتثقيف اعضائه على مبادئ الاممية والاخوة اليهودية – العربية والاخلاص لقضية السلام العادل والدفاع عن حقوق العاملين والفقراء. وقام ابو الياس بدور كبير في هذا المجال، وكان يكرس نهاية الاسبوع بعد عودته من اجتماعات الكنيست، فبدلا من الاستراحة ورؤية عائلته، كان يقوم بزيارة فروع الحزب شارحا سياسة الحزب ومستمعا الى آراء الرفاق. وعمل ابو الياس على ان يكون لكل فرع نادٍ لاجتماعات الحزب الداخلية وللمحاضرات والاجتماعات الشعبية.
ونجح الحزب في البدء بارسال اعضاء من الحزب للدراسة في بعض الاقطار الاشتراكية، وتدريجيا شمل ذلك كل الاقطار الاشتراكية تقريبا، وارسل المئات من الرفاق للدراسة، وعادوا الى قراهم ومدنهم اطباء وصيادلة ومهندسين ومحامين الخ.. وقدموا خدمات للجماهير التي كانت في أمس الحاجة لها.
واعطت المواقف الاممية التي تمسكت بها قيادة الحزب عند الانقسام عام 65 ورفضها الانحرافات الصهيونية التي طرحتها كتلة ميكونس – سنيه، وانتقادها الشديد لعدوان اسرائيل على مصر وسوريا والاردن خلافا لكتلة ميكونس – سنيه التي ايدت هذا العدوان، اعطت نتائجها الايجابية. كما ان الجهود الجبارة التي بُذلت لتوسيع صفوف الحزب وتقوية تنظيمه زادت في هذه النتائج الايجابية. وقامت جبهة الناصرة الدمقراطية التي حققت انتصارا باهرا في انتخابات بلدية الناصرة في نهاية عام 75 وانتخب توفيق زياد رئيسا للبلدية وتأييد اكثرية اعضاء المجلس. وتلا ذلك الموقف البطولي للجماهير العربية في يوم الارض الخالد، فقامت الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة التي حققت نجاحا كبيرا في الانتخابات للكنيست والسلطات المحلية في بداية 1978، ووصل عدد رؤساء المجالس المحلية من حزبيين وجبهويين وحلفاء الى ما يقارب العشرين بما في ذلك رئيس بلدية الناصرة، وكان لابو الياس في كل ذلك دور كبير.
كان توفيق طوبي قائدا شيوعيا وشخصية وطنية مرموقة. وكان عضوا في المكتب السياسي للحزب وسكرتيرا للجنة المركزية. وانتخب عام 1979 نائبا للسكرتير العام للحزب، وفي ايار 1990 انتخب سكرتيرا عاما.
واشترك ابو الياس في العديد من وفود اللجنة المركزية للحزب للمحادثات مع الاحزاب الشقيقة ولا سيما في الاتحاد السوفييتي. وكان الى جانب ذلك عضوا في رئاسة حركة السلام العالمية، وفي رئاسة حركة السلام الاسرائيلية.
وقد اكسبه نضاله المثابر ومواقفه المبدئية واخلاصه لجماهير شعبه ولقضية السلام والمساواة احترام اوساط واسعة بما في ذلك اوساط تتعارض مواقفها الفكرية والسياسية كليا عن مواقفه. ويشهد على ذلك عقد جلسة خاصة للكنيست الثانية عشرة لوداع الرفيق توفيق طوبي الذي قدم استقالته من الكنيست، والقى رئيس الكنيست آنذاك دوف شيلانسكي والوزير موشيه نيسيم وعضو الكنيست اورا نمير وعضو الكنيست الراب مناحيم بوروش كلمات تقدير لتوفيق طوبي.
وفي كانون الثاني 1993 في مؤتمر الحزب الشيوعي الـ 22 طلب توفيق طوبي لاسباب صحية اعفاءه من مهمة السكرتير العام للحزب.
وكان لابو الياس علاقات وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع قائدها الزعيم الخالد ياسر عرفات،ولعب دورا كبيرا في رأب الصدع في منظمة التحرير في منتصف سنوات الثمانين وصولا الى دوره في عودة الوحدة الى المجلس الوطني في الجزائر عام 1986 وقد منحه ابو عمار وساما عاليا من الشعب الفلسطيني.
تميز ابو الياس بدماثة الخلق والتواضع والبساطة في حياته، والاخلاص العميق لشعبه والاستعداد لتقديم كل تضحية خدمة لقضية السلام والاخوة اليهودية العربية والمساواة.
وطوال عضويته في الكنيست كان يتبرع بمعاشه من الكنيست كاملا لصندوق الحزب، وينال معاشا شهريا مساويا لما يناله كل محترفي الحزب.
وحدث ان زار بيته وفد من احدى القرى وعندما جلسوا وتأملوا المنزل وأثاثه قال احدهم "بيته مثل بيوتنا" وكانوا يعتقدون انه يسكن في فيلا فاخرة.
وعن انسانيته حدّث الرفيق غازي شبيطة (الطيرة) ان عددا من الشباب قرر في عام 52، ولم يكن قد قام بعد فرع للحزب في القرية، تنظيم اجتماع شعبي يتكلم فيه توفيق طوبي. وجند الحكم العسكري اعوانه واذنابه لمنع الاجتماع، ووصل ابو الياس مكان الاجتماع في ساحة القرية حيث احتشد جمهور كبير كما تجمع العملاء. وفجأة وقف شاب وحمل الكرسي الذي جلس عليه ورفعه عاليا صارخا: "الاجتماع سيعقد حتى لو سالت الدماء" وتبعه العشرات من الشباب، وعقد الاجتماع ولم يجرؤ العملاء على منعه.
ومرت اربعون عاما على ذلك وفي عام 92 توفي هذا الشاب ويقول الرفيق غازي فوجئنا بابو الياس في القرية يسأل عن بيت هذا الشاب الراحل ليقدم العزاء لعائلته وقد دهشنا لقوة ذاكرته وتأثرنا لعمق انسانيته.
لعب توفيق طوبي دورا تاريخيا في قيادة الجماهير العربية مع القوى الدمقراطية اليهودية في النضال ضد الاضطهاد القومي والتمييز العنصري ومن اجل السلام والمساواة.
هناك في مقبرة كفار سمير ليس بعيدا عن البحر يرقد ثلاثة من خيرة ابناء الشعب الفلسطيني. لا يبعد ضريح الواحد عن الآخر سوى بضعة امتار ولكن في حياتهم كانوا دائما سوية يناضلون يدا واحدة مع رفاقهم لخدمة شعبهم ومبادئهم – هؤلاء الثلاثة هم توفيق طوبي (ابو الياس)، واميل توما (ابو ميخائيل) ومحامي الشعب حنا نقارة (ابو طوني).
رحلوا ولكن ذكراهم العطرة ستبقى خالدة.