مازلت اذكره في أول يوم التقيت به .. صافحته بحرارة وقابلني بابتسامة.. لم يكن يتحدث يومها كثيرا وكان أفضل من يحسن الإصغاء .. تأملته في ذلك الاجتماع.. وكان في صدري اعتزاز كبير أن يكون في حزبي مثل هذا الرجل العظيم ببساطته.. كان مظهره الهادئ يخفي ثورة في صدره.. وتواضعه يأسر كل من يلتقي به ويجالسه.. أحببت منذ ذلك اللقاء أن اعرف عنه كل شيء..
    انه اللواء العسكري محمود الرواغ المعروف بابي العلاء.. المناضل الأسمر الذي اختار منذ البداية الانتماء إلى حزب الفقراء.. ليحقق لأبناء طبقته من اللاجئين المعدمين، ومن العمال وصغار الفلاحين، ما كانوا محرومين منه.. اختار بإرادة حرة أن يكون في حزب الشيوعيين.. وكان مقداما شجاعا جريئا صلبا، لم يتوان  يوما عن أداء مهماته مهما كانت خطيرة وشاقة.. عرفته أزقة المخيمات وحواري المدن، والبيوت السرية للشيوعيين.. جاع وعطش وتشرد وتنكر، وتنقل من مكان لمكان متخفيا.. كان مثاليا بالالتزام بمواعيد الاجتماعات ويشارك بوعي وجد بوضع المهمات، ويكون دوما سباقا في إبداء الاستعداد للتنفيذ.. كان إيمانه بحزبه وبأفكار الاشتراكية راسخا لا يتزحزح وأقوى من كل المغريات.. وعندما اندلعت المقاومة الفلسطينية المسلحة امتشق مثل النمر سلاحه واندفع بحماس شديد ليمارس الفعل النضالي العنيف، واثبت حينها للجميع أن الشيوعيين عندما يحملون السلاح يضيفون إلى الفعل الثوري إضافات نوعية.. دخل المعارك وعاش في الخنادق، وعرفه المقاتلون في وقت الشدائد.. لطيفا مع الجميع ملهما وقدوة للآخرين.. واستحق أن يختاره حزبه ليقود فصيل الأنصار الذي شكله الشيوعيون كإسهام منهم في نضال شعبهم.. وواصل الفدائي الأسمر العمل المسلح حتى بعد أن انضمت قوات الأنصار إلى جيش التحرير الفلسطيني.. وتعاظمت خبرته القتالية من تجارب القتال في الأردن وفي الساحة اللبنانية.. وكان أن تسلسل في الترقيات حتى نال رتبة لواء.
    أبو علاء المقاتل كان الإنسان الوديع.. وكان الإنسان المثقف المفكر الواعي.. ظل صلبا على المبادئ، ولم يبارح حزبه منذ لحظة انتسابه حتى لحظة وفاته.. واستحق وبجدارة أن يكون في أعلى هيئات الحزب- منذ عام 1982 وحتى وفاته في العام 2009 - وكان الرفاق ينتخبونه دوما بالإجماع، لان وجوده في الحزب كان يعني تواصل الأجيال، ويعني مزيدا من الحكمة، واستفادة من الخبرات.. فهو الرفيق الذي عاش العمل السري والعلني.. وعاش في أحياء الفقر وعرف آلام واحتياجات الفقراء عن قرب.. ورغم المغريات حافظ الرواغ على نظافة القلب واليد.. وزهد في الدنيا ولم يسمح ليده أن تمتد لتنهب أو تسرق.. بل ظل ناقدا للفساد والفاسدين.. لم يكن مجاملا ولا منافقا.. بل كان عنيدا يدافع بصلابة عن المبادئ الثورية التي تربى عليها..
    التحق أبو علاء بركب قادة حزب الشعب الأوفياء- الذين رحلوا أجسادا ولكن ذكراهم أبدا لم تفارق البلاد التي أحبوها، والشعب الذي ضحوا كل سنين عمرهم من اجل حريته، ومن اجل أن يبنوا له النظام السياسي الاقتصادي الأكثر عدالة.. التحق الرواغ بفؤاد نصار ورضوان الحلو ومحمود الأطرش ومعين بسيسو وعمر عوض الله وبشير البرغوثي وسليمان النجاب وفايق وراد ورشدي شاهين وفؤاد رزق ويونس تيم.. التحق بهم وترك لحزبه وشعبه تراثا وتاريخا يفاخرون به كل الدنيا..
    أبو علاء لم يكن رجلا عاديا.. بل كان ثوريا مخلصا لمبادئه.. متفانيا في العمل من اجل تحقيقها.. وفي المقدمة منها حرية الوطن- دون أن يغفل ولو للحظة عن أن حرية الوطن لن تتحقق الا بحركة وطنية تحمل فكرا تقدميا..
    أبو علاء ذلك اللاجئ ابن بلدة روبين.. ظل يحن للعودة إليها وظل مؤمنا بان العودة ستتحقق يوما ما.. أحب روبين ولكنه أحب معها غزة.. أحب غزة لأنه عاش فيها ومع أهلها .. ولأنها قطعة من ارض الوطن الواحد السليب المكلوم المحتل.. ولم يشعر بالسعادة يوما كمثل يوم عودته إليها في منتصف التسعينيات.. ولم يحزن يوما كمثل حزنه عندما حل الانقسام وسال الدم الفلسطيني بالأيدي الفلسطينية.. يومها اسودت الدنيا في عيون أبو العلاء ورفض الخضوع للأمر الواقع.. رفض الانقلاب والانقلابيين.. ورفض تجزئة الوطن وعزل غزة عن الضفة.. لأنه خاف في داخله على الحلم الذي أفنى سنين عمره كلها من اجل تحقيقه.. خاف على المصير وعلى المستقبل.. على الحرية والاستقلال والعودة.. وأخيرا عاد أبو علاء ليحتضنه ثرى غزة الطاهر الأبي.. وليودعه رفاقه وأهله وشعبه الوداع الأخير.. والكل كان عند وداعه يقول ثوري آخر ترجل.

(مخيم الفارعة )
(عضو المكتب السياسي لحزب الشعب)