مقاومة مسلحة في فرنسا ضد الاحتلال النازي – "عنفٌ غير مُدان"
يقولون إن «الدولة» بوصفها الكيان السياسي الأكمل حتى الآن، تتميز عن غيرها من الموجودات الاجتماعية بخاصية «احتكار العنف»، بما فيه «العنف المسلح»، ونراها حقيقة. ففي حالة الكيانات السياسية «ما قبل الدولة»، وإن شئت فقلْ: قبل العصر الحديث وفق التحقيب الأوروبي، وجدنا أن السلطة العامة التي تمارسها باسم مجموعة اجتماعية معينة، كانت محل منازعة قوية من قبل المجموعات الاجتماعية المختلفة الأخرى. لقد كانت الدول المستقرة حينئذ تتمتع سلطاتها بقدر واسع نسبياً من الشرعية، ومن المشروعية القانونية، طوال شطر كبير من التاريخ المكتوب، عبر الحضارات القديمة كما في الشرق الأدنى القديم وحضارة وادي النيل، وكذا الحضارة الوسيطة وأبرزها الحضارة العربية الإسلامية التي استمرت قوتها الذاتية ودافعيتها الجمعية عموماً زهاء عشرة قرون (من القرن السادس إلى السادس عشر الميلادي).
وهكذا كانت الدولة عموماً تمارس السلطة في قلب خضم من المنازعة الاجتماعية المستمرة من قبل الكائنات المجتمعية المختلفة، المنظّمة غالباً، سواء أكانت هذه المنازعة آخذة الشكل العفويّ أو النظامي، وبينهما درجات كثيرة. بل كانت الدولة في حالة الاتساع المفرط لإقليمها المسيطر عليه، مادياً أو معنوياً، الدولة الإمبراطورية، تتسع لعدد من السلطات الفعلية المتنوعة، سواء داخل المركز نفسه (عاصمة الدولة)، أم في المناطق الطرفية (أو الولايات حسب التعبير التراثي). وتلك هي الحالة التي اتّسمت بها «الدول» الإسلامية المتتابعة المعروفة في بطون كتب التاريخ، ابتداء من «الخلافة الراشدة» إلى الأموية فالعباسية والفاطمية في المشرق العربي الحالي (ومن بعدها: الأيوبية فالمملوكية) مقابل دول الأدارسة والأغالبة ثم المرابطين فالموحدين وغيرهم (في المغرب)، ومن بعد في الجميع تقريباً: الدولة العثمانية. وكان للأندلس تاريخ مشابه خلال القرون السبعة وأكثر، التي استغرقها الحكم العربي في إسبانيا، عبر الخلافة الأموية، ثم ما يعرف بــ«ملوك الطوائف».
مقابل الحضارة العربية الإسلامية، كانت أوروبا في شطرها الغربي خلال العصر الوسيط مسرحاً «أنموذجياً» لتنازع السلطات داخل «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» في إطار النظام الإقطاعي «الأنموذجي»، ودع عنك تنازع السلطة بين الإمبراطور وبابا الكنيسة الكاثوليكية. وكان الشطر الشرقي المسيطر عليه من الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو «البيزنطية» مسرحاً مناظراً لتنازع السلطات بين المركز والأقاليم الطرفية، وداخل كل إقليم على حدة (حالة مصر مثلاً قبل الفتح العربي).
أما العصر الحديث الأوروبي، فقد تميز سياسياً أول ما تميز ببزوغ الدولة ككائن جمعي يمارس سلطته على إقليم مخصوص معيّن الحدود، يعيش فيه «شعب» يملك حق تقرير مصيره الجمعي في إطار «الدولة ــ الأمة» أو «الدولة القومية» Nation-State. لكن «الدولة القومية» في الغرب، بقيادة البورجوازية الصاعدة زراعياً فتجارياً وصناعياً ثم مالياً وتكنولوجياً، «حققت ذاتها» عبر «الاستعمار» كظاهرة وسمت العلاقات الدولية تحت ظلال «الرأسمالية العالمية»، وذلك من قِبل أوروبا الغربية (والشمالية) إزاء كل من عالم ما وراء البحار over seas (إفريقيا وآسيا عموماً) والعالم الجديد (الأميركتين) والأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزلندا).
**
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن العنف المسلح الممارس من الكيانات المتنازعة فيما قبل الدولة الحديثة ــ بالمعنى الأوروبي ــ أصبح محرماً مجرّماً في «الدولة»، سواء الدولة الغربية العريقة (نسبياً) أو دولة ما بعد التحرر من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا ــ أي في عصر «ما بعد الكولونيالية». بهذا المعنى، أصبح احتكار العنف المسلّح أبرز خصائص الكيان المجتمعي المسمى الدولة. ولكن الدولة وفق المعنى المذكور، في إطار المثالية السياسية في الفكر الغربي السائد، (ينبغي) أن تقوم على التوافق المجتمعي الحر، الذي تذعن الكيانات الفرعية من خلاله للولاء الطوعي للكيان الأكبر، على قواعد من التشارك الاقتصادي، ونوع من التكافؤ الاجتماعي، والمشاركة السياسية المتنامية ضمن الديموقراطية، الحمّالة الأوجه.
هكذا، لا يكون احتكار العنف خاصية مجانية للدولة، ولكنها سمة مخلّقة من باطن الممارسة الاجتماعية المعقدة، فلا تكون محض ميزة مضافة لقوة اجتماعية بعينها في مواجهة سائر القوى.
فهل تحقق ذلك بالفعل؟ لا لم يتحقق. ولم يتحقق في الغرب الأوروبي بالذات، نتيجة التكوين الطبقي ذي الطابع الانقسامي الأشدّ في ظل سطوة الرأسمالية، وما تلاه من مظاهر لصراع طبقي صارخ، خاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واشتد تحت وطأة تفاقم الاحتكارات. فقد وضع كل ذلك قيوداً حديدية في العالم الأوروبي، ثم في الامتداد الأوروبي بأميركا الشمالية منذ (استقلال) الولايات المتحدة عام 1776 سواء على حدّ التشارك الاقتصادي، كما ينبغي له أن يكون، أو التكافؤ الاجتماعي من ثم، فالمشاركة الجماعية الحرة في السلطة العامة.
أما «دمقرطة العلاقات الدولية»، فكانت سراباً من السراب في ظل الاستعمار الأوروبي للقارات الثلاثة ــ إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ــ بل لم تبرز على مسرح الفكر الاجتماعي والخطابات الأيديولوجية إلا في عالم ومرحلة «ما بعد الحرب العالمية الثانية»، في إطار ظروف خاصة معقدة، أبرزها تشكل المجموعات الدولية الثلاثية آنئذ: الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والكتلة الشرقية (الاشتراكية) بقيادة الاتحاد السوفياتي، وعالم حركات التحرر الوطني وعدم الانحياز في «العالم الثالث» أو «القارات الثلاث».
في إطار ترسخ الدولة ككائن سياسي، تحت لواء الشعار الديموقراطي، وتسرب أفكار التكافؤ والعدل الاجتماعي في ظل «الكينزية» في الغرب و«الاشتراكية» في الشرق و«نمط التطور اللارأسمالي» في العالم الثالث، من 1945 إلى 1975 تقريباً، تم الاعتراف، في الغرب خاصة، بأن العنف المسلح الممارس من قبل الفواعل غير الدولة يعتبر عملاً محرماً، ومجّرماً داخل الدولة لتحقيق أهداف خاصة لمجموعات بعينها باعتبارها «إرهاباً». وهذا ما نعتبره «العنف محل الإدانة»، العنف المدان. وقد تم ذلك الاعتراف، رغم حالة «الإنكار» العملي لجوهر العنف المدان والإرهاب، التي جسدها التدخل الاستعماري من دول الاستعمار القديم والجديد في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وما حروب كوريا وفيتنام وحرب الجزائر التحريرية سوى أمثلة بارزة على جدل الاعتراف والإنكار. ثم إن مثالاً فجّاً واستثنائياً إلى حدّ بعيد للاستعمار قد برز في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو الاستعمار الصهيوني، العنصري الاستيطاني، في فلسطين (1948-...). وقد مارس الكيان السياسي الصهيوني الاستيطاني تجاه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ما أصبح يطلق عليه «إرهاب الدولة». كذلك إذن، أصبح الإرهاب كظاهرة عامة قريناً لإرهاب الدولة كظاهرة مخصوصة ولصيقة إلى حدٍّ كبير بممارسة الكيان الصهيوني.
وإن لإرهاب الدولة وجهين: وجه غير مجسد ووجه مجسد. الأول غير ملموس، كعنف رمزي وأيديولوجي وسياسي ودعائي وإعلامي، قائم على «القهر» كظاهرة كلية. والثاني مجسد ملموس، مادي، اقتصادياً وعسكرياً، وبالذات عسكرياً، كعنف مجسد بالسلاح، عنف مسلح باختصار.
ولا يعمل هذا الإرهاب وإرهاب الدولة منعزلاً عن المحيط المجتمعي الداخلي والخارجي، فكلاهما يغذي ويتغذى بالآثار التفاعلية الارتباطية، داخل نظام «الفعل وردّ الفعل» على الدوام.
يختلف شرّاح الإرهاب والعنف المسلح المدان في تفسير الظاهرة على مروحة دائرة بين قطبين، أولهما ما يمكن أن تسمى الرؤية الأمنيّة ــ الآنية، وثانيهما ما يسمى نظرية «الأسباب الحقيقية». فأما الأول، فيرى أن الظاهرة تعود إلى ثغرات ذات طابع عرضي في المنظومة الأمنية في لحظة معينة عبر الزمن، ومن ثم فإن مدخل العلاج يكون من خلال «فرض الأمن» في المكان ــ الزمان.
وأما الثاني ــ الذي نميل إليه ــ فيرى أن ظاهرة الإرهاب والعنف المسلح يجب منذ البدء تمييزها بدقة عما عداها. فليس كل استخدام للقوة المجسدة من لدن «الهيئات غير ــ الدولة» بمثابة عنف مدان أو إرهاب. إن المقاومة «المسلحة» لإرهاب الدولة وللاستعمار الأجنبي هو استخدام مشروع للعنف المسلح. وهناك أيضاً الحركات الاجتماعية، المعترف بطابعها الجماهيري – الثوري، التي تقوم في مواجهة نظم حاكمة على النسق الفاشي الصريح (أو النازي إن شئت) مثل نظام «بينوشيه» الذي أعقب الإسقاط الدموي الشامل لنظام سلفادور ألليندي في دولة شيلي بأميركا اللاتينية في مطلع السبعينيات. ومن الأمثلة أيضاً: الثورة الكوبية التي قادها فيديل كاسترو ضد نظام باتيستا اعتباراً من عام 1959، وثورة «الساندنيستا» في نيكاراغوا مطلع الثمانينيات نموذج آخر.
ابتداء من التمييز بين العنف المدان والعنف غير المدان ينبغي البحث عن «الأسباب الحقيقية» للظاهرة. ويمكن اختزال الأسباب الحقيقية الموجبة للعنف غير المدان (أو المبرر) في كلمة واحدة: الظلم. قد يكون الظلم داخلياً، موجهاً من قوى اجتماعية وسياسية معينة، تستعين بالقوة المجسدة وغير المجسدة سبيلاً للاستبداد بالقوى الممثلة للأغلبية الاجتماعية الساحقة. وقد يكون الظلم خارجياً، موجهاً من دولة باغية أو مجموعة دولية طاغية، ضد شعوب بعينها، بغية منعها من حقها الطبيعي في تقرير مصيرها القومي، بما فيه فرض «سيادة الدولة على مواردها».
في هاتين الحالتين، الداخلية والخارجية، تتوفر «أسباب حقيقية» للعنف المبرر أو غير المدان (المجد للعنف الثوري إن شئت). وعدا الأسباب الحقيقية للعنف الثوري، هناك أسباب حقيقية مختلفة للعنف «الرجعي» أو الإرهابي، إن صح التعبير، حيث يكون العمل العنفي راجعاً إلى عوامل أفرزته أو أوجبته دون مناص. هذه العوامل ليست مقصورة على الجانب الأمني، المحدد مكاناً وزماناً، فذلك يكون، حيث يوجد، بمنزلة «قمة جبل الجليد» كما يقولون، أو الجانب الظاهر على السطح فحسب. إنما تكون تلك العوامل متسعة لعالم الجذور الكائن في «البنية العميقة» وليست «البنية الظاهرة».
ولدراسة البنية العميقة دراسة (عميقة)، تنبغي الإحاطة بتلابيب الظاهرة جميعاً، في مركزها ومحيطها، وفق الطريقة الديالكيتكية في البحث، أو ما يمكن أن نسميها منهجية «الجدلية الاجتماعية» ذات السمة «التشعيبية» أو المعقدة. هنا يبرز «الكل المتشعب» الذي تتعدد عناصره وتتفاعل أخذاً وعطاءً، على قاعدة من التناقضات التي تقوم بين الشيء وضده (Thesis & Antithesis)، ومنهما ينبع المركب الجدلي المنتظر (Synthesis). هذا الكل المتشعّب التناقضي في طابعه الجوهري، يشهد التطور عبر الزمن من البسيط إلى المعقد فالأكثر تعقيداً بالتالي، وبذلك تكتيل دائرة «الديالكتيك» الاجتماعي بامتياز. بهذا المعنى نستطيع أن نقدم اللوحة التصويرية الآتية: الديايكتيك الاجتماعي لظاهرة العنف المسلح المدان والإرهاب مع نوع من التطبيق على الظروف المصرية. (يتبع حالقة ثانية غدا)
(عن "الأخبار")