فقدت الحياة الثقافية والفكرية العربية، في الاسبوع الماضي، ثلاثة مبدعين كبار وهم: المفكر والناقد المعروف محمود امين العالم، والروائي المصري يوسف ابو دية، والشاعر السوري كمال الشرابي. وبوفاتهم تهوي ثلاثة نجوم كانت بارزة في عالم الفكر والادب، وتخبو ثلاثة مشاعل انارت طويلا دروب الحق والخير من اجل سعادة الانسان ورفاهيته وكرامته.
والراحل محمود امين العالم هو واحد من رجالات وائمة الفكر اليساري التقدمي الحر والمتنور العربي، واهم المثقفين والاكاديميين العرب على الاطلاق، وترجع قيمته واهميته الى الادوار الجذرية المتعددة التي قام بها في مجالات مختلفة اسهمت في نهوض الانسان العربي من مستوى الضرورة الى مستوى الحرية، ومن الظلم والقهر الى العدل، ومن التخلف الى التقدم، ومن ثقافة الاظلام الى ثقافة الاستنارة. انه هرم فكري مؤدلج ومقاتل دفاعا عن العقل وكبرياء الفلسفة وشرف الانسان وحريته المفقودة، وهو من اجسر دعاة العقلانية في الفكر، والابتكار والتجديد في الابداع، والاستقلال في الرأي والتحرر في البحث الادبي والتمرد على التقاليد الجامدة.
عاش العالم، وبعمق، متغيرات العصر وتفاعل معها تفاعل حياة ووعي، واغنى واقعنا الثقافي، وقدم طرحا مستنيرا واسئلة خلافية ورؤية جديدة تهدف الى اثراء الفكر الديني، وخاض المعارك السياسية والفكرية والنقدية والجولات الفلسفية، وعالج الكثير من قضايانا العربية المعاصرة والمختلفة، معالجات ذات عمق وشمول، وظل في شيخوخته شاب الفكر والعقل والوجدان، يكتب ويفكر ويتأمل بنفس حماس فترة الشبوبية.
ومحمود امين العالم شخصية فكرية وثقافية مرموقة، غنية من الجوانب الاجتماعية والثقافية كافة، وهو وريث القيم النبيلة والاخلاق والشجاعة، تميز بالدماثة والطيبة والوداعة وتمتع بالشجاعة الفكرية والمبدئية الحقة والاستقامة والتواضع الانساني، وانخرط العالم في الحياة السياسية والفكرية والثقافية والنضالية منذ فتوته وشبابه المبكر، وشارك فيها بفعالية ملحوظة منذ التحول الاجتماعي والازدهار الثقافي الكبير الذي جرى في اواخر الخمسينيات والستينيات وانتمى للفكر الماركسي العلمي وللثقافة النقدية التقدمية والدمقراطية الحرة المغايرة، فسبح في وجه التيار السائد وغرد خارج السرب، وعرفته السجون والمعتقلات المصرية مناضلا عنيدا، وقضى حياته مدافعا عن الحرية والسلم والتقدم والعدالة الاجتماعية واعلاء كلمة الانسان في الفكر والعمل، فكانت اعماله اضاءة في سماء الفكر الانساني وحياته خطوة موفقة في طريق النضال من اجل الغد المشرق والمستقبل الافضل لكل الكادحين والمسحوقين والمستضعفين في الارض الرازحين تحت نير الظلم والقهر والفقر والجوع.
ومحمود امين العالم هو رجل المواقف الثابتة والراسخة، ومحارب شجاع على جبهة الحرية والكرامة الانسانية، ومناضل تقدمي صلب، اقترن القول عنده بالعمل، وهو مفكر عميق الثقافة وضع الفكر العربي امام قاطرة العقل، واستوعب تراث الشرق ومحوره العربي الاسلامي بقدر ما استوعب الفكر الايديولوجي الجدلي كأحد تجليات الفكر الغربي الحديث من الطفولة الى الشباب الى الشيخوخة النابضة، ووقف في طليعة المفكرين العقلانيين النقديين وتفرد بين الاكاديميين والمثقفين العرب، بمطارحاته السجالية وابحاثه المتشعبة ودراساته القيّمة، ويؤكد ذلك ما كان له من مساهمات نقدية وفكرية في جبهة الفكر العلمي التقدمي المنحاز الى الانسان العربي المقهور والمستلب والمنهوب في اعماقه.
وكان محمود امين العالم طليعيا في الفكر والنقد والادب والبحث، لا مراوغا وانتهازيا، في زمن كثر فيه المتزلفون والمراوغون والانتهازيون والمرتزقة بين المثقفين، كما كان مثقفا صاحب موقف واضح وخاض المعركة الى جانب الفكر الانعتاقي والدمقراطية وحرية التعبير والتفكير والابداع.
وآمن العالم بان لا مستقبل لنا بغير سيادة الفكر العقلاني العلمي في مختلف مجالات حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية غير المقصودة في ارادة المجتمع ووسائل الاعلام والتثقيف والتعليم، مع استيعابنا لتراثنا القديم استيعابا نقديا، وهذا لا يعني التبعية للفكر العربي بشكل مطلق، والعمل على تجاوزه بتنمية قدراتنا على الابداع الذاتي في مختلف المجالات حتى نصبح مبدعين للمعارف.
ويشير العالم الى ان خطاب العقل في الثقافة العربية لم ينقطع منذ مئة وخمسين عاما على الاقل، وان الفرص القادمة لتوغل الخطاب العقلاني المستنير في المجتمعات العربية متعددة وكثيرة، خصوصا بعد الثورة التي حققها الغرب في الاتصالات السريعة وبعد تطورات كثيرة لم تكن متاحة في زمن طه حسين وكانت ضئيلة التأثير في زمن تكون نصر حامد ابو زيد، لكنها الآن تشير الى ان القادم سيكون في صالح العقل والتفكير المستنير.
ومحمود امين العالم كان من ابرز النقاد اليساريين في مصر والعالم العربي، ودعاة الادب الملتزم.. ادب الحياة والواقع، ومن رواد الاتجاه الواقعي النقدي في الثقافة المصرية والعربية. وفي دراساته ومقالاته النقدية نجده مدفوعا بهاجس البحث في العلاقة بين ما يحمله الأثر الادبي وبين الواقع الاجتماعي، وانه يغلب قضية المضمون على الشكل معتبرا ان المضمون هو المهم والاساس، وان المضمون هو الذي يقرر الشكل الفني.
وللعالم الكثير من المقالات الفكرية والادبية المتعددة المنشورة في الادبيات والدوريات والمجلات العربية بالاضافة الى عدد من العناوين والمؤلفات، اهمها كتاب "في الثقافة المصرية" الذي وضعه مع عبد العظيم انيس، وهو سجال مفتوح مع عميد الادب العربي طه حسين وممثلي تياره ومع الكتاب المصريين لعدم تجاوب ادبهم مع الحركة الوطنية الثورية، وهذا الكتاب يعتبر من اهم كتب النقد الماركسي في مصر والعالم العربي، علاوة على كتبه "معارك فكرية" و"فلسفة المصادفة" و"الثقافة والثورة" و"تأملات في عالم نجيب محفوظ" و"الوجه والقناع في مسرحنا العربي المعاصر" و"الانسان موقف" وسواها الكثير.
وفي كتاباته يطرح محمود امين العالم الكثير من القضايا والظواهر البادية في الساحة الثقافية العربية، ويبرزها بوصفها علامات سلبية من شأنها اعاقة تطور الفكر العربي تطورا ايجابيا، وكان العالم ممن انتقدوا كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة العربية" عند صدوره، وكان لانتقاده هذا دوي هائل في اوساط المثقفين والمتأدبين في ستينيات القرن الماضي.
والأصالة بالنسبة لمحمود امين العالم لا تعني الماضي ابدا، وانما الاصالة عنده تعني "الابداع" وباعتقاده ان اصالة الانسان، المبدع خاصة تكون بقدر حسن ادراكه لخبرته الحية (الآنية والتراثية والسيكولوجية، والاجتماعية والعصرية) وتكون بقدر اكتشافه لقوانين حركة الواقع الاجتماعية والانسانية وللعلاقات الضرورية بين الاشياء والظواهر، واكتشاف القسمة الرئيسية للحظة المعينة، وهذا هو محك الاصالة والمعاصرة.
لقد رحل محمود امين العالم بعد حياة حافلة بالعطاء العظيم والابداع الدائم التوهج، تاركا الم الفقدان ومخلفا تراثا انسانيا نقديا خالدا لا يموت، ورحيله خسارة فادحة للحركة الوطنية اليسارية وللفكر العربي التقدمي المتنور والثقافة النقدية العربية، فرحمة الله عليك يا من مت واقفا كالاشجار.