اليوروفيجن هي مسابقة غنائية ينظمها الاتحاد الإذاعي الأوروبي منذ عام 1956. وتعد المسابقة أكبر حدث غير رياضي من حيث عدد المشاهدين، فيقدر عدد مشاهديه بين 100 مليون إلى 600 مليون شخص حول العالم في السنوات الأخيرة. ومنذ عام 2000 تم بث المسابقة في الإنترنت أيضاً. كل مشارك يقدم أغنية ليؤديها مباشرة في الحفل الذي ينقل عبر التلفزيون ثم يتم التصويت للدول الأخرى وهكذا يحدد الفائز بالمسابقة. يشارك كل مغنٍ عن طريق المحطات المحلية التابعة للاتحاد الإذاعي الأوروبي، وغرضها اختيار المغني الذي سيمثل بلده دولياً في المسابقة. يعد البرنامج من أطول البرامج التي لا تزال تبث.
رافق المسابقة هذا العام عدد من المواقف الأممية الواضحة التي ترى أنه يجب التعامل بأدوات المقاطعة مع المشاركة الإسرائيلية ثم، لاحقًا، الاستضافة الإسرائيلية المفترضة. يأتي هذا بسبب الطابع الرسمي التمثيلي للمشاركة وللاستضافة، ما يجعلها تندرج ضمن الحالات التي تسري عليها معايير المقاطعة كموقف وفعل سياسي يسعى الى معاقبة الاحتلال الإسرائيلي بكل تجلياته.
مثلا، فور الإعلان عن احتمال عقد يوروفيجن القادم 2019 في إسرائيل، بدأ أكثر من ثمانية آلاف شخص في آيسلندا بحملة على الانترنت لمقاطعة المسابقة الموسم القادم، وذلك بعد أن بدأت التقارير والمعلومات والصور تنتشر عن القمع الدموي الاسرائيلي للمظاهرات في غزة ضمن مسيرة العودة. موقع "grapevine" قال في 15 أيار، إن المغني الآيسلندي الشهير هناك بال أوسكار طالب بلده بمقاطعة المسابقة أيضا بشكل رسمي.
الحملة بدأت مباشرة بعد أن بدأت نشرات الأخبار بنقل الأحداث التي وقعت في غزة وقتل فيها جيش الاحتلال الاسرائيلي فيها عشرات المتظاهرين وجرح المئات بالرصاص. وُجهت الحملة للشبكة الوطنية للإذاعات RÚV، المشرفة على مشاركات آيسلندا في البرنامج. وجاء في نص العريضة "بسبب خرق حقوق الإنسان على أيدي جنود الجيش الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، فمن غير المنطقي المشاركة في المسابقة في ظل هذا العنف المستمر من قبل إسرائيل تجاه جيرانها... في الأشهر القليلة الماضية عشرات المدنيين قتلوا فقط بسبب مسيراتهم".
جمعية "آيسلندا –فلسطين" قالت في بيان لها وقعه سفين رونار هاوكسون رئيس الجمعية: "أوروبا لم تكتف بعدم دعم حقوق الإنسان هذه الليلة، بل وأكثر، فقد اختارت أن تقيم مسابقة اليوروفيجن في إسرائيل، وفي نفس الوقت فإن حكومة إسرائيل تعارض القوانين الدولية وتستمر بسلب الأرض، وحقوق الإنسان وتستمر بأعمال العنف تجاه الفلسطينيين". ومثله سيما إيرلا سيردار مؤسِّسة منظمة سولاريس للمساعدات الإنسانية، التي وصفت الحالة بالمقززة. وطالب بورن أولافسيوتير مؤسس منظمة أكيري الإنسانية بمقاطعة المسابقة.
عمدة العاصمة الأيرلندية دبلن مايكل ماك دونشا، كان دعا إلى مقاطعة المسابقة في إسرائيل 2019، بسبب سياستها ضد الفلسطينيين. وأكد أنه يؤيد مقاطعة إسرائيل، تضامناً مع الفلسطينيين بكل الطرق الممكنة، وقال: “أعتقد أنه على أيرلندا الامتناع عن إرسال فرقة أو مجموعة غنائية لتمثيل في المسابقة التي ستستضيفها إسرائيل في 2019”.
ووصلت الأمور في بعض الحالات الى شبه أزمات دبلوماسية، إذ بعثت السفارة الإسرائيلية في هولندا رسالة إلى خارجيتها احتجت فيها على مشهد ساخر بثته قناة هولندية، ينتقد سياسة إسرائيل وممارسات الاحتلال، من خلال أغنية تقلد أغنية برزيلاي الفائزة بجائزة يوروفيجن. السفير الاسرائيلي لدى هولندا نظّر بالقول: «إن حرية التعبير وحرية الصحافة هي عناصر مهمة في مجتمع ديمقراطي وتعددي.. نحن نقدر ونحترم هذه المبادئ، لكنكم في هذا المشهد تجاوزتم الحدود. نحن مضطرون إلى محاربة النشاطات الإرهابية... وعندما يفقد الناس حياتهم، بغض النظر من أي جانب، نحن لا نضحك. وأنتم أيضا يجب أن لا تضحكوا». وكالمعتاد لمّح الى "عناصر لاساميّة" في أغنية المحاكاة الهولندية.
المشهد الذي عرضته القناة الهولندية، يظهر الممثلة الكوميدية سانيه ووليس دي فريس على المسرح وهي ترتدي لباسا شبيها بالملابس التي ارتدتها برزيلاي ومع تسريحة مشابهة لشعرها وأدت أغنية لأغنيتها ولكن مع استبدال كلماتها بأخرى تنتقد وجود الجيش الإسرائيلي على حدود غزة وفتح السفارة الأمريكية في القدس. وتظهر في الخلفية المظاهرات الفلسطينية على حدود غزة في الأسبوع الماضي وصور سحب الدخان ومواطني غزة الذين يجري حملهم على نقالات.
حركة المقاطعة الدولية ضد اسرائيل (BDS)، كانت خرجت بحملة تدعو الأوروبيين من خلالها، إلى عدم التصويت للمتسابقة الإسرائيلية. وقالت حركة (BDS) إن المتسابقة الإسرائيلية "نيتاع برازيلاي، تمثّل دولة تمارس سياسة فصل عنصري وقمع وحشي، ضد الشعب الفلسطيني". وهاجمت الحركة برازيلاي شخصيا، مشيرة إلى أنها "شريكة في هذه السياسة، ذلك لأنها عملت على رفع الروح المعنوية للجنود الإسرائيليين، أثناء الحرب على غزة في العام 2014، حينما غنّت لهم ووصفتهم بالملائكة الأبطال، في الفرقة الغنائية العسكرية التابعة لسلاح البحرية الإسرائيلي، الذي قصف مناطق مأهولة بالسكان وقتل أطفالا في القطاع".
حركة المقاطعة أوضحت أن "المغنين الإسرائيليين المشاركين في سباق الأغنية الأوروبية لا يمثّلون أنفسهم فقط، وإنما يتلقون دعما هائلا من الحكومة الإسرائيلية، التي تهتم جدا بفوزهم بالمسابقات العالمية، لشرعنة سياساتها الوحشية والقمعية... إسرائيل تفعل ذلك، في الوقت الذي تُرسل فيه قناصة لقتل المتظاهرين العزل على الحدود مع قطاع غزة". وتابعت: "يجب على المواطنين الأوروبيين التوقف عن إعطاء نقاط لأغنية أرسلت من حكومة الآبارتهايد".
الأصوات الإسرائيلية "الإجماعية" بمختلف تعريفاتها من اليمين حتى اليسار مرورًا بالمركز الصهيوني، تردّ كمن تعرّض للدغة حين تسمع عن دعوة لتنفيذ مقاطعة لحدث اسرائيلي ما. غالبًا ما يكون الإدعاء أنه من غير المفيد ولا اللائق "الخلط بين الأمور"، وأنه يجب إبقاء السياسة بعيدًا عن الثقافة بشتى تجلياتها. وهناك من يدقّق أكثر فيقول: إن معاقبة نشاطات إسرائيلية ثقافية يصب في مصلحة الجهات المتشددة الحاكمة التي تستغل ذلك لتحشيد التأييد بخطابات شعبوية وقومجية. تلك الأصوات تتجاهل أن التوجه الرسمي والشعبي لأحداث كمسابقة اليوروفيجن، هو سياسيّ حتى الثمالة. هناك حسابات ورهانات على النقاط التي يمكن ويجب كسبها، بمفردات ومفاهيم السياسة. هذا ناهيك عن ان مقولة فصل السياسة عن الثقافة، هي ميكانيكية مسطحة بدرجات عالية. وكل رؤية وتحليل يعتمد النقد سيجد بسهولة مدى متانة ارتباط الناحيتين، وذلك انطلاقا من أن المسائل غير قابلة للتقسيم بهذه التعريفات الجامدة: سياسة مقابل ثقافة، لأن السؤال الحقيقي هو: أية سياسة وأية ثقافة؟ أي مضمون وأية غايات وأية قيم تُعتمد؟
في خصوص هذه النقطة الأخيرة، يجب القول إن الادعاءات وكأنه كان "يجب فصل الفن عن السياسة"، بمعنى التعامل مع المشاركة الإسرائيلية في المسابقة الأوروبية "بروح رياضية" والتجرّد من هوامش السياسة، وبالمقابل التركيز على الشابة التي تغني شخصيًا والتغاضي عن أنها تمثل دولة ومؤسسة، باحتلالها واستيطانها وعنصريتها وتعسفها الاجتماعي والطبقي – حتى لو كانت المغنية تفكر بشكل مختلف - هي ادعاءات تتقوّض من تلقاء نفسها أمام الحملة الإسرائيلية النشطة، قبل المسابقة خلالها وبعدها، من حيث التسييس الواضح واستغلال الحدث دون تكتّم ولا انضباط ولا دبلوماسيّات، لغرض كسب نقاط بعملة المصالح السياسية وليس النوتات الموسيقية!
*القسم الأول من المقال نُشر أمس الأول الجمعة
(بالتنسيق مع "المشهد الاسرائيلي")