الشاعر الشعبي يوسف أبو ليل (1936- 2019م).
غيب الموت في الرابع عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019م الشاعر الشعبي والزجال يوسف صالح أبو ليل والذي اشتهر ب " أبو ليل" وهو من بلدة كفر قرع في المثلث، ولكنه يسكن قلوب الآلاف من أبناء مدننا وقرانا من الجليل والنقب والمثلث والساحل والمناطق المحتلة منذ العام 1967م، وكذلك أبناء شعبنا في الخارج. وذلك لما تميز به من صوت جميل وأشعار باللغة الشعبية الفلسطينية أضاف لها بعض الميزات الشخصية من إبداعه، وبذلك ينضم لمجموعة المبدعين الشعبيين في هذا الوطن أمثال أبو سعود الأسدي (دير الأسد)، وأحمد هيبي (كابول)، وتوفيق الريناوي (الرينة)، وغيرهم.
عرفته في الأعراس منذ نعومة أظفاري من خلال حضوره لإحياء الحفلات للعرسان من أبناء بلدنا التي تربطها بطبيعة الحال علاقات طيبة مع القرى المجاورة ومنها كفر قرع، وكان يرافقه زجال آخر كالعادة، فأحيانا يكون المرحوم أبو نازك (من كفر قرع أيضا وقد كتبت عنه الإصلاح في حينه)، وأحيانا زجال آخر من الجليل أو المثلث.
وكبرت وأتاحت لي ظروف الحياة أن أتعرف عليه أكثر وزرته في بيته وناقشته وتداولنا بالأدب الشعبي، أبو ليل متواضع وابن شعبه في تعامله مع الآخرين، فعندما انتخب رئيسا لمجلس كفر قرع المحلي شكلنا وفدا ترأسه عضو الكنيست الجبهوي في حينه المرحوم هاشم محاميد، وأذكر سرور أبو ليل بهذه الزيارة وتأكيده أنه ليس من علية القوم بل هو ينتمي للكادحين والعمال وتحدث عن عمله في الأجرة في بلدة المراح وغيرها، وأكد على اهتمامه بذوي الدخول المحدودة في بلده وأنه سيعمل على تطوير بلده. سررنا من رده، وشعرنا أنه أيضا كان مسرورا بزيارتنا ومباركتنا له.
وعندما عُينت مديرا لمدرسة كفرقرع الثانوية (2005- 2008م)، كان أبو ليل من أوائل رجالات كفرقرع الكرام الذين أتوا للمدرسة لتهنئتي بهذا المنصب وتمنى لي النجاح في عملي وأبدى ثقته بي. شكرته وغيره ومثل هذه الثقة كانت تزيدني إصرارا وتؤرقني جدا في كيفية خدمة هذا البلد الطيب وكيف أستطيع العمل على تقدم طلاب ومعلمي المدرسة.
أبو ليل الفنّان كان يغني من ناحية المضامين للوطن والحرية، للعامل وللفلاح لسهول بلادنا ولوديانها ولمناطقها الجليل والمثلث ولجبالها الكرمل والخطّاف، الدعوة المباشرة والغير مباشرة للتمسك بالوطن والقيم الاجتماعية العليا مثل مقاومة الظلم والجود والشهامة والعصامية والتسامح والكرم والنخوة وحب الخير للغير.
أبو ليل من الأوائل إن لم يكن الأول ممن أدخل اللغة العبرية بشكل سلس للموال والزجل العربي عندما رأى أو أحس أو قيل له أن من حضور العرس ضيوف يهود من المدن أو القرى اليهودية، فكان يحييهم بلغة عبرية جميلة مع لحن الزجل وبشكل منسجم كان يثير الاعجاب لدى الضيوف اليهود والعرب أيضا، وكان يعرف كيف يمرر همومنا ورسالتنا العربية بمحبة السلام والدعوة له، والدعوة للتفاهم والأخوة اليهودية العربية، والصداقة، وكان يتحدث لهم عن الكرم العربي والعادات والتقاليد العربية، فمن جهة كان أبناء شعبه يعجبون به لأنه أدى رسالتهم بلغة الآخر ومن جهة أخرى يعجب به الضيوف الذين تحدث وأدى الزجل بلغتهم.
أبو ليل صاحب الحكايات الملحمية في آخر السهرة حيث كان يقف على مرتفع وأحيانا كان هذا المرتفع برميلا أو طاولة قوية أو مجرد مرتفع من صخر بعد انتهاء الحداء، ويقص قصة شعبية ذات أهداف سامية مثل قصة "نوف ومحمد الملحم" البطل العربي السوري الذي قاوم الفرنسيين وحكم عليه بالإعدام، وتبين القصة من خلال قصة غرام وحب بين نوف ومحمد الملحم خساسة ونذالة والدها العميل للفرنسيين الذي وشى به، رغم أنه أعطاه الأمان، وهي شبيهة بالأدب الرسمي الذي تناول من خلاله الشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء، قصة قيس وليلى في مسرحيته الشعرية " مجنون ليلى"، نذكر ويذكر جيلي من الشباب في ذلك الوقت كيف كنّا نتمسمر ونحن نسمع أبو ليل يشنف الآذان من ناحية ومن ناحية أخرى هذا التنفيس للشباب والشابات الذين كانوا يسمعونه معا رجالا ونساء ، شيبا وشباب، من خلال ملاحم الحب العذري والبطولة في الدفاع عن الوطن وازدراء العملاء والجواسيس.
تميز أبو ليل "برزعته" المميزة في صف السحجة حيث كانت ذات فنية في الانتقال من حالة إلى حالة من الوقوف منتصبا إلى الميل إلى السير كالحجل أمام الجمهور.
ميز أبوليل أيضا جماله الخاص، السمرة العربية، العيون ومكملات الشخصية التي كانت بلا شك لها جاذبية خاصة لهذا الزجّال والشاعر الشعبي.
أبو ليل كما عرفته كان مثقفا يقرأ ويقرأ عن الزجل وأنواعه، ويتقن مراحل استقبال الضيوف من البلدان الأخرى ثم ينتقل لتحية الضيوف من البلد وأهالي البلد وينتقل لصف السحجة، ويتناول موضوعات مثل السيف والقلم، الكذب والصدق، العلم والجهل، الحرب والسلام، وهو ما تميز به الحداء الفلسطيني، وقيمة الشاعر الشعبي هو بمدى القوة البيانية والمعرفة العلمية للدفاع عن موقفه، وكان الجمهور في معظم الأحيان إلى جانب "أبوليل".
عندما خرج أبو ليل إلى الأردن للتعزية بوفاة ملكة الأردن المرحومة رانية التقاه الباحث الفلسطيني الدكتور نمر سرحان وأجرى معه مقابلة نشر جوهرها في كتابه "موسوعة الأدب الشعبي الفلسطيني". وأذكر أنني التقيت د. نمر سرحان بعد مجزرة مخيم جنين على أرض المخيم المحروق والمدمَّر، وتحدثنا عن لقائه معه فأكد أنه أعجب به وبقدرته ومعلوماته في الأدب الفلسطيني.
قام مجلس كفر قرع المحلي بنعي المرحوم أبو ليل لجماهرنا العربية ومحبيه وحسنا فعل، ولكنني أقترح أيضا ألا يتوقف الأمر على ذلك، بل هناك ضرورة لإقامة مركز ومعهد بلدي ومبنى للأدب والموروث الشعبي باسم المرحوم أبو ليل، ولكن على أساس أن تجمع فيه دراسات وآثار عن الشعراء الشعبيين في كفر قرع أولا والمنطقة وبلادنا، وأن يدرَّس هذا الموضوع بشكل منهجي، واليوم لدينا كوادر جامعية درست وتدرس هذا الأدب.
وأخيرا وليس آخرا فقد قمت والنقابي جهاد عقل من أوائل محرري الإصلاح، بتقديم العزاء لأهلنا في كفر قرع باسم مجلة الإصلاح التي عرفها أبو ليل نفسه أيضا، وتحدثت باسم الوفد عن مناقب الفقيد كما عرفناه. ونحن مرة أخرى نتمنى له رحمة واسعة ولأهلنا في كفر قرع ولأهلة وللصديق د. صالح أبو ليل وحميد وجميع الأقارب الصبر وحسن العزاء.
(عرعرة المثلث)
إضافة تعقيب