صورة من البقيعة معدّلة بين الأبيض أسوَد والملوّن فرضت نفسها هنا. وكان الخبر: لقد رحل الأستاذ حسين مهنا! وأقرأه مبطنًا بعزاء، فقد طوى ملفّ حياته مسدّدًا ديونه كاملة معفىً من الضرائب الروحية كليًّا! رحم الله من ترحمه ذاكرة الأيام... وبينما لا تغفل التعزية التقليدية عن فضائل الشاعر المدوّنة والمعروضة، فقد لا تبصر مآثره المحكية ريًّا عميقًا يلازم أذن السامع... رسوت على التعزية عجالة، عبر الهاتف، حتى تزول حالة التصدّع الأمنيّ. ولكن.... أما الشعراء فلا يموتون ولا يعتقون، بل يتجدّدون ويتعتّقون ما دام نهر الكلمة جاريًا وسقّاية الرواية نزّازة...
على أبواب باب ذاكرتي طرق خفيف لا يتوقف، يتسارع مع عبوري المسار شرقًا من منهلي الأول (المدرسة القديمة). على مدخل ذاكرتي هرم مهيب ثبّت أقدام التاريخ هنا مخضّبة بالتراب، وكحّل عينه بالمجد... على هذا الباب آية من آيات الرّغَب... شمعة ذبالتها زيتونة سال على جوانبها التاريخ درًا فاض من أفواه الخوابي! تستنطقها، تردّ بكبرياء الواثق: أنا جدة جدات حلاّبات غيمات التاريخ الغابرات والعابرات... أنا شمعدان بيوت الرّغَب الحديثة وقنديل ذاكرتها. وينشقّ سمعي عن قولهم: اثنين لا تصدقهن: الشبّ إذا تغرّب والختيار إذا ماتوا جياله! أما حلمي فلم يتغرّب وقد شبّ عاشقًا وطنه، وها هو يقظ مقرفص على التراب في صفّ التطريز الصيفيّ في رغَب البقيعة الغربية، بُعده عن المدرسة مسافة عرض الشارع، متى ظمىء يؤذن له بقطع الشارع لورود العين البرانيّه، عابرًا ظلّ زيتونة مات العديد من جيالها، وما يزال نبض التاريخ في تجاويفها ساريًا كتابًا ناطقًا بما مرّ هنا من طنين وحفيف وخوار... وخرير وقصف وهزيم... ومضى تاركًا أثره فيها عالمًا بشريًا عبر دورات من الشحذ والصقل والتسنين والتنسيق... فيه من الإثارة بقدر ما فيه من التأمل، من الرهبة بقدر ما فيه من الإغراء.. ومن التوثّب بقدر ما فيه من الركون..
بين السكينة والضجيج تطبق عليّ الرغبة بالتسلّل إلى النافذة الخلفية طمعًا بمعرفة شيء مما جرى ويجري بين هذه الثنائيات من زجل وغزل وتكدّر وصفاء.. ونثر ونظم وصمت وإرهاف... فأهتف من جنّة: لقد ولد الشعر هنا قبل ولادة الشعراء! ولد طليقًا رويّ الحروف ليبارك تزاوج أحلام الجبال وعزف السواقي في هيكل الوعي وشاعرية الحياة! وأدوّن في خاطري: لعلي أٌكون أمام اتحاد ثنائيات أنسنت عقيدة الأرض دمجًا آليًّا محسوبًا بفكر وعاطفة الإنسان! لعلّ هذا ما كان في كلّ مكان.
هي برقة تعترضني فيما أنا ماضية (قبل سنوات)، لتسقّط جديد ثمرات البقيعة الكلمة الأنيقة المشعّة، فأسأل عن شاعر يدعى حسين مهنا، وما أعرفه عنه، حتى حينه، لا يتعدّى ما تتكرّم به جريدة الاتحاد، مضافًا إلى سمعته الطيبة كمدرّس ومربٍ نموذجيّ (بحسب أشقائي الأصغر..)، ومنزل والديه الملاصق للزيتونة الهرم، معززًا بعلاقة وثيقة عتيقة بعائلة مهنا الرائدة. أما علاقة زوجي به فقد مرّت صدفة عارضة عبر طريق الآلام، بعيدًا عن المنزل، وانتهت في موضعها، بمستحضر من بنات يديّ "الدكتور"، كما أحبّ وأصرّ على مخاطبته لاحقًا: دكتوري!
الباب مفتوح على واجب العيادة، ولو تمييلة طريق. في الخلفية علاقة أصيلة بزوجته الطيبة منيرة علي وأسرتها الكريمة، أستفيد منها، فأمدّ ذراعي، وأطرق الباب طرقتين...فيفتح على غمر من الترحيب، يؤكد لنا أنّا موضع تكريم في أيّ ظرف كان! ضرب المواعيد مسبقًا لا يسري على أهل البيت!! كلما إجيتو عالبلد ميّلوا، البيت دايمًا مفتوح ومضوي... مشيرًا إلى مصباح البيت "منيره"!
أبو راشد لا يعير أذنه لساعة تتجاهل حقيقة أصالة أبناء الأرض... عنيد لا يمكن استجراره لحظيرة طاعة الدارج، لأنه يرفض أن يكون غير نفسه... يستبقيك ليَسمعك ويُسمعك من نُتف البلديات الراكدة طيّ الأيام ما لم تسمع من قبل. فتتبعه فلاحًا عفيف النفس واللسان مغبرّ الكفّ معقّم الجبين، تكاد تسمع فيه أقدام فجر لا يكابر... لا تكبّله أوجاعه عن النهوض...ويمضي إلى مأدبة حروف مسائه راوية، فيما أنت تظنه ورّاقًا!
فنيّ الكاميرا الخفية الطفل حسين مهنا يعرض من أرشيفه صوَرًا منسوخة في ذاكرته، تحكي بساطة الآباء، وتشير بفخر إلى مناقبهم، قد يمرّر غمزة مؤدبة هنا لصالح تماسك السرد، أو إطراء هناك... فلا استغابة ولا تملّق...دون أدنى تكلّف أو اجتهاد، يخرج فصلًا مبسّطًا من فصول البقيعة الإنسان الحيّ في الذاكرة الشعبية.
وأتعرّف عن كثب، وبالمحسوس، على ما لم أكن أبحث عنه في روّاد الكلمة البقيعية، على مائدة روايته لا يجوز تخاطف اللقمة الأدبية... تدخل عجّانه تراه يولي النخالة \حروف خبزه عناية خاصة، يسحب الخيط الدخيل بحرفية العارف قيمة نكهة الكلام... فهل يكون قد توصّل قبل المختبر العلميّ للفوائد الإضافية غلاف الحبوب المسمى قشرة؟ قد يمرّر غمزة مؤدبة هنا أو إطراء عابرًا هناك، لضرورة تماسك السرد... فلا استغابة ولا تملّق.. وبدون اجتهاد يخرج فصلًا من الذاكرة الشعبية إخراجًا فنيًا شائقً.
في أجواء الشعر المحكيّ المرويّ تتساءل إن كنت قد دخلت غابة عشق خاصة بمآدب النفس ومآربها، أو دفيئة لإنماء وإحياء موات أصالة أبناء الأرض! كنت أبحث عن شاعر وجدتني أمام مقاوم يسيّج محميته الإنسانية ببضع حروف محكية عارية من القوافي.
خلال تعريجة صيفية مضت قدّمت له كتبي الثلاثة، فهنّأني مهلّلًا مفاخرًا "ببنت البلد"... مالحني للتوّ بقراءة الإهداءات، واعدًا برصد ما أمكن (لقراءتها)، من وقته المحتجز بين المنبّه وخزانة الأدوية: "بديت أعمل نظام توفير قاسي لنظري... صرت مجبور أقنّن قديش بغدر لساعات الطوارئ، وصارت كثيره...!"
هذا الصدق والرهافة من طبع رضّع سواقي البقيعة... إنّما بإضافة عبة زائدة من الحياء... هذه من خصال بقيعة الجليل... إنّما بإضافة جرعة فائضة من شاعريّة المحبة!
إضافة تعقيب