ثقافة الشكر
بداية لا بد من كلمة قصيرة عن ثقافة الشكر. فمن لا يشكر الناس لا يشكر رب العباد.
نبدأ بالشكر وهو اللازمة التي أصبحت طقسا لازمًا نفتتح به هذه الأمسيات الثقافية. وبدون الشكر تكون الأمسية الثقافية منقوصةوبتراء.
فما أحوجنا ولا سيما في مثل هذا الزمن الرمادي، إلى ممارسة ثقافة الشكر..هنالك حاجة اجتماعية وأخلاقية وقيمية لأن نعلم أنفسنا أولا والأجيال الصاعدة ثانيا..ثقافة الشكر.
الشكر لقبطان نادي حيفا الثقافي الأخ فؤاد نقارة ومعه طاقم البحارة الذين يقودون هذه السفينة الثقافية. الشكر الجزيل لكم جميعًا أيها الإخوة.
الثقافة في مواجهة رصاصة الجاهلية الحديثة
وبعد تأدية واجب الشكر..لا بد من كلمة حول مشهد النزيف العبثي الذي يتدفق من خاصرة المجتمع العربي. فبالإضافة إلى أهمية هذه النشاطات في الارتقاء بالمشهد الثقافي..فإننا نرى في تكثيف هذه النشاطات مساهمة متواضعة في الرد على هذا المشهد الجنوني وتطرح البديل لرياضة الطخ القومية التي تجتاح هذا الوطن الجميل.
فصوت الكلمة الثقافية الهادفة الذي ينطلق من المواقع الثقافية من شأنه أن يدوّي ويهزم صوت صليل سيوف الجاهلية الحديثة.
**
لا بد من كلمة عن الزمن الجميل..الذي يقتلنا الحنين إليه.
قال الأعمى ذو البصيرة النافذة أبو العلاء المعري:
أمس الذي مر على قربه يعجز أهل الأرض عن رده
ورغم هذا، فإننا لا نستطيع أن نتخلى عن رومنسيتنا رغم الواقعية الخانقة التي تضرب حصارها على المشهد الاجتماعي ..إنها الرومانسية التي تسكننا وتستحوذ على فكرنا ووجداننا..وهي ملاذنا الذي نلجأ إليه في هذا"الربيع" الرمادي الدموي.
عندما كانت الناصرة ناصرة العيش والملح
ولنبدأ الحكاية من البداية في مدينة الناصري ناصرة وناصرًا.. فرغم غيوم الحكم العسكري التي غطت سماء المشهد السياسي، كان الزمان جميلًا..تسوده الألفة والدفء والمحبة بين أبناء الشعب الواحد..عيش وملح..وألم واحد..وأمل واحد. وكانت الناصرة ناصرة عزّ نظيرها. وكم تخيلت، في حينه، أنها مدينة لا مثيل لها في الكون..هذا على الأقل ما كنت أشعر به..وما كنت أطمح لأن يكون.. وحملت هذه المدينة وعشقها في قلبي ووجداني أنى ذهبت.
لن أستفيض في الحديث عن هذه المعشوقة التي اختطفها الزمان الترللي..وأخفاها في عباءة الجاهلية!
مجلة الطالب..مغامرة أدبية جميلة
في أواخر الخمسينات من القرن الهارب ..والعمر الهارب..وفي المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة، قيض لي أن أكون فردًا من كوكبة طموحة من طلاب الصف الحادي عشر العلمي، وقد أصيبت هذه الكوكبة بعدوى العشق للغة العربية، فنضت عن السواعد وغامرت وأصدرت مجلة "الطالب"، وهي مجلة أدبية ثقافية ساهم في تحريرها والكتابة فيها كوكبة قيادية من طلاب المدرسة، كما ساهم فيها طلاب من مدارس أخرى في المدينة وخارجها. وكان للمعلمين الطليعيين دورهم في تشجيع المجلة ومحرريها، فلم يبخلوا عليها بإمداداتهم وكتاباتهم دعمًا وتشجيعًا لمحرريها الذين أصدروا المجلة في أصعب الظروف، وزودوها من مصروف جيوبهم ومن عرق جبينهم في العطل المدرسية.
عرفنا جميع العيون..إلا عين ماهل!
في العدد الخامس من المجلة التقيت لأول مرة باسم طالب لا أعرفه، وأسمع به لأول مرة، بعث إلينا بقصيدة عنوانها "حسناء". جاء في مطلعها:
حسناء يا شمس الوجود للوجوه الحائرة
حسناء يا شمس الضياء للعيون الساهرة
حسناء يا خير البرية والزهور العاطرة
حسناء يا وجه المليحة والعيون الساحرة
واكتشفت في ما بعد أن ناظمها هو طالب اسمه محمد حسين حبيب الله، جاء من قرية لم نكن نعرف منها إلا اسمها..وهي على مرمى حجر من الناصرة.. اسمها عين ماهل..لقد عرفنا جميع العيون ..العسلية والخضراء والزرقاء والسوداء والكحلاء والشهلاء..وعين الحلوة..وعرفنا جميع العيون التي في طرفها حور..إلا عين ماهل..ولم نكن نعرف محمدًا ولا حسينًا ولم نعرف إلا حبيب الله..وعلمنا أن الطالب محمدًا واحد من طلاب الجيل الذي تخرج قبل جيلنا بسنوات..وكان جيلًا من القياديين على الساحة الأدبية والثقافية.
وذاب الثلج وبان المرج
ومن ثم حصل التعارف الشخصي عبر اللقاءات الثقافية والتربوية والسياسية والاجتماعية..تبعها تسونامي المقالات التي طغت على العديد من المنابر الثقافية. ثم كانت ثقافة العيش والملح التي عززت العلاقات الاجتماعية والعائلية..وعلى الشاطئ الآخر كانت المشاركة الفعالة في النشاطات الأدبية والثقافية المشتركة التي يقوم بها الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين- الكرمل 48.
"الإحاطة في أخبار غرناطة" والبحار الهائجة
ومن هذه المقدمات ننتقل لنلقي ضوءًا سريعًا على "إنسان إن شاء الله".
إن نظرة سريعة إلى عناوين المقالات في هذا الكتاب تشي بموسوعية الـكاتب وبـ"الإحاطة في أخبار غرناطة" التي تحيط بميادين واسعة الأرجاء..
أمامنا شريط سينمائي نطلّ عبره على الثراء الذي يكتنزه هذا الإبداع، والذي يغطي ميادين واسعة ويشيب المخزون الثقافي الثريالذي اكتنزه الرجل خلال سنوات العمر الطويلة.
ومنذ طفولته الأدبية وحتى اليوم خاض الكاتب بحارًا هائجة، فجاهد في ساحات العلم وأبدع دُنى أبجدية عامرة بالتجارب الحياتية حاملًا بوصلة التربية وسائرًا على خطى القامة الفلسطينية السامقة خليل السكاكيني.. مضمونًا وعنوانًا.
نفتح الملف الشخصي فنقرأ ما يلي:
لقد تولّى الكاتب المناصب القيادية في ميادين التربية والعمل الدؤوب في خدمة التعليم والمعلمين ورفع مستوى أدائهم التعليمي..الأمر الذي أكسبه فائضًا من المعرفة والخبرة والتجربة الغنية الواسعة التي لم تتوفر للكثير من العاملين في هذا المجال وفي هذا الوطن..
ومن أبرز معالم مسيرة الرجل..العمل في الكلية العربية للتربية في حيفا حيث عمل نائبًا لمدير الكلية ومحاضرًا، كما عمل محاضرًا في مدرسة التربية في جامعة حيفا وجامعات إنجلترا، يضاف إلى ذلك تولّيه منصب رئاسة لجنة المتابعة لقضايا التعليم العربي، ولم يكتف بهذا..بل اقتحم عالم التأليف من أوسع أبوابه، وكانت مواسم الحصاد عامرة بالخيرات الأدبية..فكانت الحصيلة سلسلة من المؤلفات في موضوع القراءة و"فهم المقروء"، وما كان لهذه الدوائر أن تكتمل لولا عشقه للغة العربية وأساليب تدريسها واهتمامه بالفكر التربوي ومناهج التعليم..
جميع هذه المحطات ساهمت بشكل بارز في إثراء عالم التأليف الذي أبدعه الكاتب خلال عشرات السنين.
وجميعها..شاهد عدل على مواسم الحصاد الموسوعية الثقافية لدى الرجل.
معالم بارزة في "إنسان إن شاء الله"
وإذا ألقينا نظرة خاطفة على بعض المواضيع في "إنسان إن شاء الله"..تكشّف أمامنا عالم حافل بأطياف شتى: فمن الدراسات الأدبية والمقالات عن المبدعين شكيب جهشان وجمال قعوار وطه محمد علي، إلى القضايا التربوية والاجتماعية والسياسية وتطريز المقالات بعيون الشعر قديمة وحديثة..إلى ما نظمه من قصائد منذ مطلع حياته في المدرسة الثانوية وصولًا إلى العلاقات المتشعبة والشخصية بالمعلمين وغيرهم من الشخصيات التربوية والاجتماعية التي شكلت المشهد الثقافي، إلى تأكيده على أهمية العلاقة مع "خير جليس في الزمان"..إلخ.. جميع هذه الأمور تشي بموسوعية الرجل..وتبشر بإبداعات ثرّة أخرى..نحن بحاجة إلى مثلها في هذا المشهد الأدبي الذي يغصّ بالكثير مما تقذفه المطابع من إنتاج هزيل يعاني فقر الدم "الإبداعي"!
نبارك للدكتور محمد حسين حبيب الله على هذا الإنجاز..الذي يشكل مساهمة تثري المشهد الأدبي..ونتمنى له دوام الصحة والمزيد من العطاء الإبداعي.
ذكرى صبرا وشاتيلا..والسباحة ضد التيار الرسمي
الرجال مواقف..والنساء مواقف..وإذا كان ذلك كذلك..فقد لفت انتباهي الموقف الجريء الذي وقفه الرجل في الذكرى السنوية الأولى لمجزرة صبرا وشاتيلا (1982) التي سقط ضحيتها 3500 من أبناء الشعب الفلسطيني واللبناني في بلاد الأرز. فرغم قرار لجنة المتابعة واللجنة القطرية للسلطات المحلية العربية الذي يدعو إلى الإضراب بمناسبة هذه الذكرى..دعت الإدارة في الكلية التربوية طلابها إلى الحضور وتجاهل دعوة لجنة المتابعة وعدم الإضراب. كان قرارها بأوامر من المؤسسة الرسمية بقطع الطريق وضرب الحصار على الإضراب.
كان الرجل حامل لواء التربية نائبًا لمدير كلية العربية للتربية، فهل يليق بالمربي حامل الرسالة أن يرفع الراية البيضاء ويستسلم أمام موقف المؤسسة؟ لم يكن أمام الرجل إلا يتحدى ويغرد خارج السرب الرسمي.. ويقود سفينته عكس التيار.ل م يكن أمامه إلا فتح الأبواب على مصاريعها وأعطى الإشارة داعيًا طلابه: أخرجوا من الصفوف.. فلا صوت يعلو على صوت الإضراب.
الهمزة وما أدراك ما الهمزة!؟
وختامًا..أرجو أن يكون الختام مسكًا.
قال الفاروق عمر بن الخطاب: رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي. ونحن نستعين بعمر لعل الله يرحمنا برحمته..فنقول الحق ولا شيء غير الحق.
للحق والإنصاف نقول عندما نقرأ كتابًا باللغة الإنجليزية أو العبرية، يستعصي علينا أن أجد خطأ طباعيًا واحدًا..أما في لغتنا القومية المستهدفة التي نحرص عليها حرصنا على بؤبؤ العين ونعلم أبناءنا عشقها ونتصدى للسهام المنطلقة إلى عينيها الكحيلتين..فإننا لا نستطيع أن نغضّ الطرف عن ملف الخطايا اللغوية والإملائية والطباعية التي تشوه الوجه الجميل للغتنا القومية. وعلى ذلك، لا بد من همسة عتاب نوجهها إلى الهمزة السائبة المنفلتة على حلة شعرها..متخلية عن دورها تاركة الحروف عارية كما خلقها ربها..يقتلها الجوع والعطش والغربة والضياع تحت السماء والطارق؟
فأين اختفيت أيتها الهمزة المحترمة؟
ويقول الراصد الأدبي معاتبًا: والذي نفسي بيده..لأشلعنّ أذنيك شلعًا مبينًا!
التوتر في العلاقة بين سيبويه و"إنسان إن شاء الله"!
ويلتقط الرادار النقدي ذبذبات غريبة يكتنفها الكثير من علامات التعحب، فتعلن حالة استنفار..ويضيء الضوء الأحمر..وينتهي إلى اكتشاف توتر في العلاقة بين "إنسان إن شاء الله" وبين العم سيبويه.وهذا في ملتي واعتقادي..لا يليق بمقام الإثنين، وأنا أرى أن نبادرفندعو إلى جلسة سرية أبطالها ست عيون يشارك فيها الثلاثي سيبويه ومحمد حبيب الله والعبد الفقير إليه تعالى..وعلى جدول أعمالها..السبيل إلى تنقية الأجواء مما علق بها من الشوائب،لفتح صفحة جديدة وناصعة في العلاقة بين الرجلين، وأنا أرجو أن نخرج ببيان مشترك نعلن فيه عن المصالحة بين الشاطئين..ويا دار ما دخلك شر..وصافي يا لبن!
أقول قولي هذا..مع أطيب التحايا للحبيب حبيب الله..صديقًا مبدعًا وإنسانًا إن شاء الله!
**
(ألقيت الكلمة في الأمسية التكريمية للدكتور محمد حسين حبيب الله بمناسبة صدور كتابيه "إنسان إن شاء الله" و"عندما تشرق الشمس". أقام الأمسية نادي حيفا الثقافي بتاريخ 17-10-2019، وشارك فيها الأساتذة: سهيل عطا الله ومفيد صيداوي وفتحي فوراني. وتولت عرافتها الكاتبة عدلة خشيبون)
إضافة تعقيب