وعدٌ بلا وفا
// محمد نفاع
إحسبوها قصة ولكم الأجر والثواب، وليمتشق الناقد الشجاع قلمه او يكلف سبابته وتلمس تلك الأزرار، وينهال على هذه الكلمات تهشيما، فأنا لا أتقن التعرف على هذه الحدود بين القصة القصيرة والصورة القلمية والحكاية والاقصوصة والخاطرة، خاصة بعد ولوج الحداثة التي ضربت عناصر القصة القصيرة، وما فيها من عقدة وأزمة وأوج وحَل... ها أنا اتدرّج الى جيل الثمانين، اقول ذلك بألم صادق وفقدان، فهل هذا صعود او هبوط وانحدار!! المهم أني أخلفتُ الوعد ثلاث مرات، تمهلوا، المقصود ليس موعد غرام. المرة الاولى قبل ثلاثين سنة، كان من الواجب ان اكون في طيرة بني صعب، الطقس ربيعي لطيف، لكن زوجتي مرضت او تمارضت!! وما أقسى التردد بين الإقدام والرجوع.
أخيرا وعبر الهاتف أعلمتُ الرفيق غازي بصوت رخو وبلا ثقة. لا أتمكن من المشاركة، تخيلتُ بسمة صفراوية جانبية هامشية على وجهه وهو يرد! لاه... سلامتها.. دير بالَك عليها.. في نبرته شيء من عدم التصديق، لا يمكن ان انسى تلك اللحظات الثقيلة، والآتي أعظم، فما حدث هذه الايام وفي أمسيتين، متقاربتين جدا، يومي الاربعاء والخميس، في المستقرضات بين شباط المودّع وآذار القادم، الأمسية الاولى مع ابن طرعان، في مركز محمود درويش إياه، وفي الناصرة اياها، فبعد ان تهيأت للسفر، انفلشت الارض بِراقة من البَرَد الوافر، طرطق بعزم على الابواب، وهَشّم ورق السنديان وبراعم اللوزة، أحنى الاعشاب، ورتع على الدروب، فما كان من السائق صاحب السيارة إلا ان اعتذر عن رفضه، بأي شكل من الاشكال: هذه فرشة للثلج، والسيارة تشحّط على البَرد، هذا صحيح، والدرب كلها طلوع ونْزول، مثل "طريقك يا حبيبي طلوع ونزول والهوا – الهوى – بجيب برديات ونزول"، بعد ساعة صَحت الدنيا، كدأب شباط اللباط، ما في على كلامه رباط، كان سخيا كريما هذه السنة، جرت الوديان، بجّت عيون الماء، امتلأت البُرك، اكثر من الف ملم مطر بحسب مقاييس المطر الثلاثة في البلد، متى كنتُ أهاب الثلج وأحسب له حسابا، كان بهجة، امشي من ساعات المغرب المتأخرة الى الفجر، في الوعر، مع قنينة نبيذ او من افراد عائلته، وألاحق آثار اقدام الوحوش، ارانب وثعالب وخنازير، وطيور زاعقة وقضبان الشجر العاري من الورق "مزخرفة مسهمة ومفوّفة"، اما السنديان فينحني بخشوع وإباء تحت الحِمل، ونُتف من هذا الحمل تشقط وتسقط بصوت طري. وما يضايقني ان بلدية القدس تتهيأ لذلك بقدها وقديدها وتشبه نفسها بموسكو، أي تشبيه هذا، وهل يوجد ما هو مشترك مع موسكو!! هناك الكثير من سمّات البدن، موسكو؟! جبال الشوف وظهر البيدر وظهر القضيب اكثر شموخا من بلدية القدس وطوارئها.
أما المرة الثالثة والأخيرة فكانت الى حيفا، الى نادي حيفا الثقافي المبجّل والنشيط، الى خلود وفؤاد وبقية الزملاء، الى امسية تكريم وإشهار لفؤاد ابن دالية الكرمل. المصائب والرزايا أتت متلاحقة، دفعة واحدة، هاجم الألم المفاجئ سِنّا من اسناني الباقية، هي بعيد ان تكون ثنايا بِراقة كحَب البَرد، هذا التشبيه أعتى من تشبه القدس بموسكو، هاجمني التهاب مؤلم مضايق في موجات متلاحقة، شيء ما ينبض في الصدغ، ثقل عليّ الكلام، تناولت كمية من حبوب "الموكسيبيل"، لكن الألم لم يهدأ، كنّا نتداوى بروح القرنفل، ارتشفت رشفات من العَرَق، أنا لستُ متدينا، لم يتخدر الألم والسِّن، تخدرتُ أنا وغفوت، قد يكون الالتهاب بسبب برديات الهوا، الهوا وليس الهوى، ثلاث مرات أخلفت الوعد، بينها ثلاثون سنة، كلا، نحن بعيدون عن القول: وعد بلا وفا عداوة بلا سبب!! ليست هنالك عداوة، هنالك عتَب، وهل العتب قليل!!
احسبوها قصة، موضوعها اعتذار... حتى عندما نشروا عن أمسية حيفا، لم يتطرقوا الى غيابي الممقوت، لهم ذوق رائع رفيع، حتى لو أشاروا الى ذلك، لا مانع أبدا فأنا متهم بحق، وهذا اعتراف واعتذار..
إضافة تعقيب