إن كتابة إدوارد سعيد عن المثقف ودور المثقف، تكاد ترتبط جوهرياً بمفاهيم أُخرى ساهم فيها سعيد مساهمة حاسمة. ومن أهم هذه المفاهيم، مفهوم النقد؛ إذ لا يستقيم الحديث عن دور المثقف من دون الحديث عن النقد. وفي كلتا الحالتين، فإن النقد، كأداة وممارسة، والمثقف، كذات، يسائلان ويقفان في مواجهة أي فكر هوياتي يقوم على اعتبار أن هناك هوية ثقافية سرمدية مكتفية ومتماهية مع ذاتها. ومن خلال استجواب أي سلطة تسعى للهيمنة والسيطرة، أكانت هذه الهيمنة عن طريق السياسة، أم الثقافة، أم الدولة، أم المجتمع، أم القبيلة، أم الحزب، فإن مشروع سعيد في كتاباته المتعددة يهدف إلى تثبيت تعدد الأصوات، بدلاً من استبداد الصوت الواحد، وإلى إقرار تمازج الهويات والحضارات وعدم الانكفاء في واحدة منها، وإلى الانتباه الدائم إلى أن أي هوية ثقافية هي في مسار تطور دائم، وأنها وريثة ما سبقها، وهي في حالة حوار مستمر مع ثقافات أُخرى. وقد يحمل كتابه الأخير: "فرويد وغير الأوروبيين"، والذي يشير فيه إلى الأصول غير اليهودية لموسى ولأفكاره، تنبيهاً لنا إلى أنه في صلب الهوية اليهودية وأساسها، تقف شخصية غير يهودية.
في إشارة إدوارد سعيد هذه، يقول لنا إنه حتى الهويات القبلية المغلقة مثل اليهودية، غير واعية لشرط وجودها، وإن "الآخر"، دائماً وأبداً، حاضر في صناعة الهوية. بهذا المعنى، فإن "الأنا" نوع من الـ "نحن" على الدوام، ذلك بأن هذه الأنا التي تؤمن بفرادتها وتتغنى بأصالتها، إنما هي مكتظة بحضور "الأنوات" الأُخرى، وهذه الـ "نحن" تحوي في داخلها "هم" و"أنتم". وأي محاولة لإلباس قبعة واحدة ووحيدة لهذه الـ "نحن"، إنما هي إخضاع الكثرة والوفرة والتعدد لصوت وصورة أيقونية واحدة.
يرتبط دور المثقف عند سعيد بنوع معين من الثقافة والفعل الثقافي. وعندما نتحدث عن الثقافة، يمكننا أن نميز بين مفهومين لها: الأول، باعتبارها نوعاً من توحيد دلالات الرمز والمعنى لدى الجماعات، وهي بهذا المعنى، تشكل المخزون المعرفي والمجالي والوجداني لجماعة معينة، فتتغلغل في الوعي واللاوعي لتصبح شفافة وبديهية، وجاهزة دائماً للاستعمال والاستحضار في الفرح والحزن، وفي الطقوس المختلفة، وفي طرق التعبير عن المشاعر. وهذا المفهوم يسعى لتكريسها كعامل إجماع وموضع اتفاق. والثقافة هنا، هي أساساً موروث يعبّر عن طريقة معينة في الحياة، فعندما نتحدث عن ثقافة شعب معين، فنحن إنما نتحدث عن طريقته الخاصة في الحياة والتذوق.
غير أننا نتعامل مع الثقافة ضمن مفهوم ثانٍ ذي نكهة كونية موضوعية تعتبر الثقافة فعل تجاوز دائم يقوم على قدرتنا على الابتعاد عن بدائية ارتباطنا بالطبيعة وفطريته، وعلى قدرتنا على صوغ حريتنا وممارستها، ذلك بأن الثقافة هنا هي جهد دائم. إن الفعل الثقافي ككتابة قصيدة، أو إخراج مسرحية، أو اكتشاف علمي، أو تأليف مقطوعة موسيقية، يحيل إلى فعل فردي يقوم على الفرادة والتجاوز والتجديد، وعلى استئناف الماضي وموروثه، وتقديم تفسير ومعنى جديد للعالم الذي نعيشه، ولتجاربنا الحياتية المعاشة.
بناء على هذين النموذجين من الثقافة، يمكننا أن نفكر في نموذجين من المثقفين: نموذج يرى أن دوره الأساسي خلق الإجماع وتوحيد المعاني وصوغ أحلام الجماعة ومشاريعها الكبرى، بينما يقف النموذج الآخر في حالة استفسار مستمرة، فيستجوب الإجماع، ويخشى الاتفاق، ويبقى في حالة مساءلة متواصلة مع تلك القيم السائدة. وإدوارد سعيد ينظر إلى المثقف بصفته هذه: إنه دائم التساؤل، والمشاكس الذي يخشى الإجماع، لأن هناك مَن يختنق دائماً تحت سحابة هذا الإجماع، ولأن الصوت الواحد والموحد والوحيد، يأتي دائماً على حساب أصوات جرى إخراسها، ودور المثقف هو استعادة الأصوات الخرساء.
بناء عليه، ليس مفاجئاً أن ترى سعيد يستلهم تراث جوليان بيندا في حديثه عن المثقفين، حتى إن كان يعتقد أن حماسة بيندا لفكرة المثقف الأخلاقي، الفذ، الذي يمثل ضمير البشرية ويتحدث باسمها في المفارق الكبرى والامتحانات الصعبة، هي حماسة مبالغاً فيها بعض الشيء، ذلك بأن بيندا يعرض صورة مثالية للمثقف الذي يتوقع منه أن يُعرّض نفسه للنبذ والإبعاد، أو الصلب، وبالتالي، ليس مصادفة أن الأمثلة التي يوردها بيندا تشمل شخصيات تاريخية مثل المسيح، وسقراط، وفولتير، وإميل زولا. وعلى الرغم من موقف إدوارد سعيد هذا، فإنه لا يخفي إعجابه بالنموذج الذي يقدمه بيندا، وبأن شخصية المثقف التي ينسجها تبقى جذابة آسرة، وإن كان يعتقد أن قدرة أي مثقف على الاستقلال الكامل عن المجتمع ومغرياته هي قدرة محدودة، وأن علينا أن نبحث عن استقلال نسبي وليس استقلالاً كاملاً. أمّا بشأن تحفظه على النموذج المبالغ فيه لبيندا، فإنه يرى في المثقف نوعاً من الضمير الجماعي الذي يعرف الحقيقة ويواجه مراكز القوة، المتميز والمتمرد، المحرِج والمشاكس دائماً، غير المنساق مع جماعة قومية أو حزب. ومثلما يقول: "فالعبرة الأساسية برمّتها أن يكون محرِجاً ومناقضاً، بل حتى مكدِّراً للصفو العام."
غير أن أسئلة كثيرة تواجه طرح سعيد هذا، منها: ما قيمة هذه المشاكسة والإحراج؟! ولماذا يكون التمرد والخروج عن المألوف وتحدي الجماعة والاستئناف عليها وعلى مشاريعها أموراً مرغوباً فيها؟ وهل الوقوف في وجه القوة شيء إيجابي دائماً؟ نحن بحاجة إلى القوة وإلى الجماعة أحياناً كثيرة، لكن ألا تحتاج مشاريع التحرر وبناء المجتمعات الجديدة إلى قوة مركزية تدير الأمور؟
لا يطور سعيد رداً واضحاً على هذه التساؤلات، وإن كان رده مضمراً بعض الشيء في نصه. إن الحاجة إلى استجواب الإجماع والمشاريع الجماعية ومراكز القوة، نابعة من حقيقة وجود فجوة دائمة ـ حتى عندما تكون المشاريع نبيلة والأهداف سامية جداً ـ بين الفكرة وتجسيدها المادي على أرض الواقع؛ هناك مسافة غير قابلة للجسر أبداً بين الوعد والتنفيذ، ودور المثقف هو أن يحرس هذا الوعد وهذه الفكرة، وأن يحميهما من السقوط في الجمود، ومن الاعتداد بالذات. وكي تسترشد الممارسة بالفكرة، فإن على الفكرة أن تبقى مستقلة عن مادية تحققها، وأن تبقى على مسافة كافية، لتستطيع الممارسة مراجعة نفسها يومياً. إن دور المثقف وفقاً لسعيد، هو الإبقاء على هذه المساحة والمسافة، والحفاظ على جذوة معيارية الفكرة متقدة، لأن من دون هذا البعد ـ هذه المسافة ـ يصبح النقد مستحيلاً، ومن دون النقد، تتحول الفكرة إلى دوغما جامدة تسحق كل ما يقف في طريقها.
ويكتمل دور المثقف لدى سعيد باجتماع عدة صفات فيه يمكن شرحها على الشكل الآتي:
المثقف والشهادة
الأولى هي الشهادة، إذ يشير سعيد إلى أنه في كثير من الأحيان فإن دور المثقف لا يكون في مشاركته في مواقع القوة، أياً تكن تلك القوة: الحكومة، أو الإعلام، أو الشركات العابرة للقارات، وطبعاً، ليس في الانتماء إليها، لكن "تعمّد عدم الانتماء إلى هذه السلطات يعني، من أوجه عدة، عدم القدرة على إحداث تغيير مباشر، لا بل الاقتصار على دور شاهد يشهد على أمر مرعب لم يكن ليسجَّل لولاه."
وقضية دور الشاهد هذه موضوع في بالغ الأهمية، لم يكن سعيد أول مَن توقف عنده. وقد يكون المرجع الأهم في هذا السياق، أطروحات وولتر بنيامين بشأن التاريخ، والتي يشير إليها سعيد بنفسه. فبموجب تلك الأطروحات، يبدو التاريخ ذا سطح أملس، لأن مَن يكتب التاريخ هم المنتصرون عادة، غير أن هذا السطح يُخفي تحت براءته، كثيراً من الضحايا والمآسي التي أُخرست وأُخرجت من التاريخ ومن روايته. ويكمن دور المثقف هنا، في "تخليص" هذا النوع من الضحايا من قسوة التاريخ الذي لا يرحم، والذي يكتب نفسه من وجهة نظر المنتصرين؛ باعتبار أن جميع الحلقات السابقة، والأثمان السابقة، والضحايا كلهم، كانوا ضروريين في مسيرة تقدّم التاريخ كي يسير على سكّته، وليصل إلى محطته الأخيرة. وبموجب هذا المنطق للتاريخ، لا وجود للخسارات المطلقة، لأن كل خسارة، من وجهة نظر التاريخ المستقبلي، تبدو محطة ضرورية في حبكة التاريخ الماضية نحو الأمام، نحو التقدم، نحو حقوق الإنسان، نحو الاشتراكية، نحو الرخاء، ونحو الديمقراطية والليبرالية.
عندما يصرّ سعيد على التزام المثقف "دور الشاهد الذي يشهد على أمر مرعب لم يكن ليسجَّل لولاه"، فإنه يصرّ على رفض منطق غائية التاريخ، ورفض منطق الغايات التي تبرر الوسائل. فدور المثقف أن "يسجل" ذلك "الأمر المرعب"، بغضّ النظر عن الأهداف المستقبلية والغايات الجماعية الكبرى، والتي باسمها يجري تبرير هذا "الأمر المرعب" الذي يجري هنا والآن، بينما لا يستطيع السياسي أن يستجير بالمستقبل كي يغطي على فظاعته وجرائمه، ولا تستطيع الغايات الكبرى والأهداف السامية أن تبرر الأدوات القامعة والمرعبة. ومن هنا، يكتب سعيد "أن الخيار الرئيسي الذي يواجهه المثقف هو إمّا أن يتحالف مع استقرار المنتصرين والحكام، إمّا أن يختار السبيل الأكثر صعوبة، معتبراً ذلك الاستقرار حالة طوارىء تهدد الأقل حظاً بخطر الانقراض الكامل." بهذا المعنى، يقارب سعيد رؤية فوكو بشأن المثقف، والتي قال فيها: "أنا أحلم بالمثقف الذي يحطم البراهين والتعميمات [....] والذي هو دائم الحركة. لا يعرف وجهته، ولا يعرف كيف سيفكر غداً، لأنه منشغل بالإصغاء إلى أصوات الحاضر." إن أصوات الحاضر هذه، هي الأصوات التي يطلب منا سعيد الإصغاء إليها.
من المثير في هذا السياق مقارنة ومراجعة موقف سارتر وألبير كامو من هذه القضية تحديداً، وموقف سعيد المحتمل من نقاشَيهما. ففي إثر اكتشاف المجازر التي قام بها ستالين، ليس في حق القوى الرجعية والمحافظة فحسب، بل ضمن سياسة التطهير داخل الحزب الشيوعي نفسه أيضاً، عرفت الساحة الثقافية سجالاً مهماً وحاداً بين سارتر وكامو، وكان الأول منهما في تلك المرحلة من حياته، قد دخل في المرحلة الماركسية، محاولاً أن يزاوج بين فكره الوجودي واعتناقه الجديد للماركسية. أمّا كامو، فكان في حلّ من تلك المزاوجة، بل إنه خرج آنذاك مُديناً جرائم ستالين في العلن، غير آبه بما يمكن أن تؤول إليه تلك الإدانة، ولا بإمكان توظيفها في سياق الحرب الباردة ضد المشروع والفكر الاشتراكيين. لقد ارتأى كامو أن ينحاز إلى الضحايا، وأن يرى العالم من خلاله وجهة نظر مَن يقع عليه القمع والبطش، إذ لا شيء عنده يستطيع أن يبرر هذا البطش: لا مسيرة التاريخ، ولا مشيئته، ولا المشروع الاشتراكي برمّته. أمّا سارتر فاتخذ، في المقابل، موقفاً أكثر حذراً، محاولاً أن يفهم السياق، خشية أن يجري توظيف الحديث عن هذه الجرائم في السياق العام للحرب الباردة. عندها، وجه سارتر اتهاماً لكامو بأنه ينظر إلى التاريخ "من جهنم" ـ وجهنم هنا هي وجهة نظر ضحايا التاريخ ـ وليس من وجهة نظر صانعيه الذين يمضون قدماً نحو مستقبل أفضل للبشرية جمعاء. لم يقتنع كامو بهذا الكلام على التاريخ ومشيئته، وظل وفياً للضحايا، وأراد أن يكون شاهداً على ذلك "الأمر المرعب". ويبدو لي أن سعيد، المعجب بدور سارتر كمثقف ناقد من الطراز الأول، كان سيقف مع كامو في هذه المواجهة بينهما.
المثقف وسؤال الخبير المحترف
الصفة الثانية التي ركز عليها سعيد تتعلق بمسألة التخصص والاحتراف. فإدوارد سعيد في كتابه: "صور المثقف"، وفي كتابات أُخرى، يشير إلى هذه المسألة من باب الإيماء والحوار والمساجلة، فيعرّج على أعمال كثير من المفكرين والأدباء والناقدين ويقتبس منها، من دون أن يتمكن القارىء من أن يحدد موقف سعيد الواضح من النص الذي اقتبسه، كأن على القارىء أن يستشفّ النص السعيدي من بين النصوص الأُخرى التي يرقص معها نصه بحركة رشيقة. ويبدو أن حديث إدوارد سعيد عن الاحتراف والتخصص قد يخلط الأمور بعضها ببعض، وربما من المفيد هنا تقديم نماذج لذلك:
يركز إدوارد سعيد على دور المثقف بصفته هاوياً، كي يستطيع التحرر من إملاءات المال والسلطة. ولذلك يكتب: "في رأيي إذن، أن الواجب الفكري الأساسي هو البحث عن تحرر نسبي من مثل هذه الضغوط. من هنا كان تصوري للمثقف كمنفيّ وهامشي وهاوٍ، وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة." ويضيف في موقع آخر أن "الخطر الهام الذي يتهدد المثقف هذه الأيام [يكمن] في مسلك سوف أسميه الاحترافية. وما أعنيه بالاحترافية هو اعتبار وظيفتك كمثقف وكأنها عمل تؤديه كسباً للرزق بين التاسعة والخامسة... ومن ثم تصبح غير مثير للجدل وغير معنيّ بالسياسة، و'موضوعياً'."
وعليه، فإن سعيد يدعو إلى مواجهة الإغراءات والضغوطات الواقعة على المثقف بما يدعوه "الهواية، أي الرغبة في ألاّ يكون الربح أو المكافأة الباعث الوحيد على النشاط الفكري، بل أن يكون الدافع هو الشغف، والاهتمام الذي لا يفتر، بالوضع الأشمل بإقامة صلات عبر الحدود والحواجز، وبرفض التقييد الحصري بحقل اختصاص معين."
تشير هذه الفقرة إلى تعامل سعيد مع المشكلات التي يثيرها الاحتراف، وتلك التي يثيرها التخصص، باعتبارها تعود إلى نوع واحد من المشكلات. لهذا، من المفيد التمييز منطقياً بين الاثنين.
إن خطر الاحتراف ناجم عن تسخير العمل الفكري الحر للمثقف، إلى مجرد تنفيذ وظيفة. فالخطر هنا هو خطر الوظيفة ذات المقومات والمتطلبات الواضحة، والتي يتقاضى المرء في مقابلها معاشاً ومكافأة. المشكلة هنا ثنائية الأبعاد: الأول يتعلق بالاعتماد المادي على صاحب العمل أو المشغل، الأمر الذي يحرم المثقف الاستقلالية الضرورية لعمله. أمّا الثاني، وهو ذو مستوى أكثر عمقاً، فيتعلق بأن المثقف ـ مثلما يفهمه سعيد ـ يجب أن يكون تحت سطوة أفكاره، أي أن ينقاد وراءها، بمعنى ألاّ يكون استراتيجياً في فكره. غير أن فكرة الاحتراف المقترنة بفكرة الوظيفة تفترض نوعاً من الأداء المحدد سلفاً، والمعروف المعالم، أي أن الوظيفة سابقة في توصيفها على دور الشخص الذي يؤديها، وهنا تكمن المشكلة حصراً، وهي أن الموظف لا يمكن أن تحدد وظيفته مسبقاً، لأنها بحكم تعريفها غير قابلة للحصر وللتعريف، ولأنها تقوم على تلقائية التقاء الفكر بالمسؤولية.
وبمقارنة لغوية، تشي اللغة العربية بمعنى أكثر عمقاً لدور المثقف بصفته "هاوياً"؛ ففي اللغة الإنجليزية صفة "الهاوي" (amateur) تعني عكس المحترف، بينما في اللغة العربية، فإن "الهاوي" هو مَن يتبع هواه، أي أنه لا يقوم بما يقوم به إرضاء لأحد، ولا يقوم به بشكل استراتيجي أو مخطط له، وإنما يقوم به كما يتبع العاشق هواه، ومثلما يلعب الولد بألعابه. الهوى واللعب، بعكس العمل، لا هدف لهما يتجاوزهما: يلعب المرء حين يهوى، ويهوى حين يلعب. كلاهما يحتكم إلى قانونية داخلية خاصة به، ولا يحتكم إلى إملاء من الخارج. هذا لا يعني أن المثقف حين يقوم بدوره النقدي، فإنه يتسلى أو يتلهى، لكنه هو مَن يفرض على نفسه المنظومة المعيارية، والواجبات الأخلاقية التي يعتقد أنه يجب أن يلتزم بها. المثقف بهذا المعنى ليس فوضوياً (anarchist)، بل هو حر. وحر بمعنى أن أحداً لا يفرض عليه أجندته، غير أنه ليس حراً بمعنى التحرر من أي التزام، لأنه يبقى تحت سطوة ضميره وما يمليه عليه.
نستنتج إذاً، أن سؤال الاحتراف شيء وسؤال التخصص شيء آخر. فالجواب على مشكلة الاحتراف هو أن يكون المثقف هاوياً، في حين أن مشكلة التخصص لا يكون الجواب عليها أن يكون المثقف هاوياً فقط، بل إنها تثير أيضاً نوعاً آخر من الأسئلة يلمّح إليه سعيد في نصه تلميحاً.
يقتبس سعيد من كتاب راسل جاكوبي، ويوافقه فيه على اعتباره "أن مثقف اليوم هو، على الأرجح، أستاذ أدب منغلق على نفسه، ذو دخل مضمون، لا يستهويه التعاطي مع العالم الأبعد من حدود حجرة التدريس [....] غرضه الرئيسي هو التقدم الأكاديمي لا التغيير الاجتماعي." وفي صفحة أُخرى، يشير سعيد إلى المثقف باعتباره صاحب "الاهتمام الذي لا يفتر، بالوضع الأشمل، وبإقامة صلات عبر الحدود والحواجز، وبرفض التقيد الحصري بحقل اختصاص معين."
ترى ما الذي كان يقصده سعيد تماما؟
لا أعتقد أن سعيد يريد القول إنه يحق لكل شخص أن يخوض في أي مجال من مجالات العلوم، من دون أي تأهيل ومعرفة خاصين بالمجال. ولا أعتقد أنه كان سيرحب بي مثلاً (كباحث في القانون والفلسفة السياسية) كي أدرس في قسم الأدب المقارن في جامعة كولومبيا. ولا أعتقد أنه يقصد بذلك أنه على استعداد لأن يسلِّم جسده لعلاج على يد طبيب غير مختص، أو يذهب إلى محكمة مع محام هاوٍ، أو يبني بيتاً من دون استشارة مهندس معماري مؤهل.
إذاً، ما المشكلة التي تكمن في الاختصاص تحديداً، من وجهة نظر سعيد؟
الاختصاص بحد ذاته ليس مشكلة، ونحن ـ وسعيد كذلك ـ نريد ونرغب في أن يكون هناك مختصون في شتى مجالات الحياة العملية. وإذا أتيح لكل شخص أن يعمل في شتى الموضوعات، بغضّ النظر عن معرفته ومستوى تأهيله، فهي الكارثة بعينها.
إذاً ما المشكلة مع الاختصاص؟
المشكلة الأولى أخلاقية في جوهرها، وتكمن في مَيل المختص، مع الوقت، إلى القناعة التامة بأن المجال المعرفي الذي يبحثه محدد المعالم، ويعمل بموجب منطق داخلي متماسك ومنسجم، وأن جل ما عليه القيام به هو الانصياع لهذا المنطق الداخلي التحليلي والذهاب معه إلى نهايته. هذا هو منطق التطور العملي في العصر الحديث، ذلك بأن رجل الاقتصاد يبحث في أنجع الوسائل للتعامل مع قلة الموارد، وهو حين يقوم بعمله وبحثه هذا، يضع جانباً أسئلة تتعلق بالجمال والأخلاق والدين. والأمر ذاته ينطبق على عمل باحث القانون الذي يقوم على فهم متطلبات فكرة الحق القانوني، والتي تختلف في جوهرها عن الأخلاق والدين والاقتصاد، وقِس على ذلك... وقد تكون فلسفة ديكارت التحليلية واحدة من مصادر إلهام هذا التراث البحثي، فهي تقوم على فكرة تفكيك أي مشكلة تواجه الفكر إلى مجموعة من المشكلات الفرعية، وعلى التعامل مع كل مشكلة على انفراد بصفتها معضلة محددة تحتاج إلى حل. إن هذا "التواضع" في حل المشكلات وفي فهم العالم، هو أحد أسرار نجاح المشروع العلمي للحداثة، بعيداً عن محاولة الإجابة عن أسئلة كبرى دفعة واحدة، مثل الموت، والله، والسعادة، والحرية، والوجود... إلخ. لقد أعطى هذا الاختصاص كل فرع من فروع المعرفة نوعاً من الحرية كي تنمو وتتطور، من دون طول انتظار لما يجري في مجالات أُخرى، ومن دون ترقب أي تأشيرة دخول من أي سلطة خارجة عن سلطة البحث ومنطقه، وسلطة الميدان البحثي نفسه. من هنا نفهم لماذا تطورت فلسفة الأخلاق بعد أن تحررت من سيطرة اللاهوت الديني عليها، ولماذا تطور علم الاقتصاد وفقه القانون، بعد أن استقلا وخرجا من تحت عباءة فلسفة الأخلاق.
لكن، على الرغم من هذا النجاح، فإن هناك خطراً جدياً كامناً في هذا التقسيم لمجالات العلم والبحث وكثرة، التخصص. وهذا الخطر يندرج في اعتقاد المحترف بأن جل دوره هو الانصياع لما يقتضيه مشروعه البحثي، بموجب المنطق الداخلي للبحث. الخطر هنا يكمن في الإلغاء الطوعي لمسؤولية الباحث، اعتقاداً منه أنه يمتثل لمنطق بحثي صارم، وأن المطلوب منه هو الانصياع لهذا المنطق. إن القبول الأعمى بوجود منطق حديدي من هذا النوع، يجعل الباحث مجرد برغي في ماكينة كبيرة أُسند إليه دور محدد. في هذا النوع من الممارسة العلمية تختفي المسؤولية الفردية، أو بكلمات أبسط: إنها هروب من الحرية الإنسانية إلى قدرية علمية لا تختلف في جوهرها عن القدرية الدينية، إن لم تكن أكثر خطورة منها.
إن كل باحث وعالم وصاحب اختصاص حين يبحث في موضوع معين، أو يقوم بتجارب معينة، يقوم في الوقت عينه بأكثر من عمل: فمن ناحية، هو يقوم بشكل آني ومباشر، بعمل بحثي يهدف إلى الإجابة عن سؤال معرفي في مجال معين (الفيزياء، القانون، الطب، الاقتصاد، إلخ.)، لكنه من ناحية أُخرى، وفي الوقت نفسه، يساهم في مشروع هو دائماً أكبر من بحثه، بل يجعل بحثه جزءاً منه. وهذا المشروع لا يكتمل إلاّ بوجود باحثين آخرين، وبوجود مشروع بحثي، ومجتمع علمي، واقتصاد، ودولة، إلخ. فهناك مثلاً، مَن يطور شرائح إلكترونية، وهناك مَن يبني دوائر إلكترومغناطيسية، وهناك مَن يبني علبة من البلاستيك. وعندما يجري وضع هذه العناصر معاً تصبح حاسوباً هو جزء من مشروع علمي وحضاري معين. وباحث التاريخ الذي يكتب تاريخ مفكر معين، ربما يبني في الآن نفسه مدماكاً في رواية لمشروع قومي معين. وعالم الآثار الذي يبحث في آثار حضارة معينة، قد يساهم في تفنيد معتقدات سائدة لشعوب كاملة. إن أي نشاط علمي أو فكري أو ثقافي قد يصب، من حيث تدري أو لا تدري، في سياق أوسع ربما يكون له تأثير أبعد وأشمل من النتاج العلمي المباشر والآني.
إن هذه الحقيقة البديهية تعني أنه، إلى جانب كون الواحد منا باحثاً أو مؤرخاً فيزيائياً أو عالم آثار، أي أصحاب اختصاص والتزام تجاه هذا الاختصاص، فإننا لا نتوقف عن هواياتنا الأُخرى عندما نقوم بنشاطنا البحثي: نحن نستمر في كوننا مواطنين، وفي كوننا آباء وأمهات، وفي كوننا أعضاء مجتمع وعالم معين، كما نبقى أصحاب مسؤولية تجاه هذه الانتماءات جميعاً. إن التشديد على الهوية الاختصاصية للباحث تحوي أحياناً رغبة دفينة في إخفاء دوره بصفته مواطناً، وربما كان هذا بالذات، ما يقلق سعيد في الإفراط في التركيز على التخصص: أي محاولة الإفلات من المسؤولية.
في هذا السياق، يمكن القول إنه في أي نشاط اختصاصي علمي أو فكري، هناك فائض ما، يقع حتماً خارج أي اختصاص؛ فالسؤال عن كيفية خفض نسبة الدهنيات في الدم وبواسطة أي نوع من الأدوية، هو سؤال علمي يخص علماء الطب. لكن السؤال الحتمي عمّا إذا كان من الحكمة حقن الجسم بمثل هذه الأدوية، نظراً إلى تأثيرها السلبي في مزاج الأفراد، هو سؤال خارج عن علوم الطب، إذ لا جواب طبياً عن سؤال من هذا النوع. كما أنه لا جواب في علم الفيزياء، عن الآثار الاجتماعية المترتبة على إقامة منتزهات في الفضاء الخارجي، وإن كان سؤال كيفية إقامة هذه المنتزهات من صميم علم الفيزياء. والسؤال عن هوية قاتل جون كنيدي سؤال تاريخي، لكن السؤال عمّا إذا كان هذا الموضوع يستحق بذل جهد تاريخي في هذا الاتجاه، أو كيف يمكن أن يؤثر هذا الاكتشاف في الثقافة السياسية الأميركية، فيقع خارج علم التاريخ.
قياساً على ذلك، عندما يحذر سعيد من دور المختص، فهو إنما يحذر بصورة خاصة من تلك الرغبة لدى المختص في إقامة الأسوار حول نفسه، والتي تسعى لإعفائه من المسؤولية الاجتماعية والسياسية، ولا يحذر من الاختصاص بحد ذاته.
أمّا المشكلة الثانية المتعلقة بالاختصاص، فمشكلة معرفية في جوهرها، وليست أخلاقية بالضرورة، وتكمن في "العقم" الذي قد ينشأ عن الاختصاص في موضوع معين، من دون الالتفات إلى غيره من الاختصاصات، ومن دون النظر في حقول معرفية مجاورة. فـ "الحياة" كلٌّ واحد، وحدةٌ واحدة، تهطل علينا مطراً غزيراً لتبلل كياننا. وإذا كان من المتعذر أن نفهم الحياة دفعة واحدة، فذلك لا يعني ألاّ نحاول فهمها كوحدة واحدة. صحيح أن للعقل الإنساني ممارسات متنوعة في عدة مجالات: العلوم، والأخلاق، والجمال...، إلاّ إن العقل الإنساني واحد حين يقوم بتلك النشاطات المتعددة. إن هذا الفهم يتطلب أن نقيم جسوراً بين حقول المعرفة، بعد أن قمنا بفصلها بعضها عن بعض، كـ "استراتيجيا حربية" للسيطرة على الحياة، غير أن دور العقل لا ينحصر في التفكيك والتقسيم، بل يمتد أيضاً إلى جمع أوصال ما فككه، وإن كان من الضروري القيام بذلك بحذر شديد.
إن الحاجة إلى إقامة الجسور والقفز عن الحواجز لا تقف تماماً في مواجهة الاختصاص، بل على العكس من ذلك، تفترض تعدد الاختصاصات وليس إلغاءها. فالمطلوب معرفياً هو إقامة العلاقات عبر الحواجز، ورؤية طرق تأثير معارف حقل معين في حقل آخر، والطريقة التي تهاجر فيها الأفكار من حيز معرفي إلى آخر. هذا كله لا ينفي الاختصاص، وإنما يدعو إلى عدم الاكتفاء باختصاص واحد معين، ويعتبر أن الأمور المثيرة حقاً تحدث عادة في نقاط الالتقاء بين الحقول، وفي معابر الحدود والحواجز نفسها، لأن هذه المناطق نفسها تقع بدورها على هامش السيطرة المحكمة للمركز، وبالتالي فهي مرشحة للتجديد والابتكار. ولا شك في أن هذا هو ما يقصده سعيد في نهاية الأمر.
[1] إدوارد سعيد، "فرويد وغير الأوروبيين" (بيروت: دار الآداب، 2004).
[1] رايموند ويليامز يتحدث عن ثلاثة معانٍ للثقافة، اثنان منها يتشابهان مع التوصيف الذي قدمته أعلاه، وإن كانا لا يتطابقان معه تماماً. انظر:
Raymond Williams, “The Analysis of Culture”, in Cultural Theory and Popular Culture: A Reader, edited by John Storey (Athens / USA: University of Georgia press, 1998), pp. 48-57.
[1] إدوارد سعيد يقرأ ويفهم ماثيو أرنولد في كتابه "الثقافة والفوضى" (Culture and Anarchy)، ضمن السياق الذي يرى أن دور المثقف الأساسي رفع منسوب الشعور بالهوية المشتركة. انظر: إدوارد سعيد، "صور المثقف"، ترجمة غسان غصن، مراجعة منى أنيس (بيروت: دار النهار للطباعة والنشر، ط 3، 1997)، ص 43.
[1] سعيد، "صور المثقف"، مصدر سبق ذكره، ص 14 و22.
[1] المصدر نفسه، ص 24.
[1] المصدر نفسه، ص 29.
[1] فكرة المسافة الكافية (distance) تتردد عند إدوارد سعيد، باعتبار هذه المسافة شرطاً للنقد. انظر: Edward Said, “Secular Criticism”, in The World the Text the Critic (Cambridge: Harvard University Press, 1983), pp. 1-31.
[1] سعيد، "صور المثقف"، مصدر سبق ذكره، ص 18.
[1] المصدر نفسه، ص 47.
[1] انظر في هذا الصدد: Michel Foucault, Politics, Philosophy, Culture : Interviews and Other Writings, 1977-1984, edited by Lawrence Critzman (New York: Routledge, 1988), p. 124.
[1] بشأن السجال بين سارتر وكامو انظر:
Shoshana Felman, “Crisis of Witnessing: Albert Camus' Postwar Writings”, Cardozo Studies in Law and Literature, vol. 3, no. 2 (Autumn, 1991), pp. 197-242.
وانظر بصورة خاصة: Ibid., pp. 209-217.
[1] سعيد، "صور المثقف"، مصدر سبق ذكره، ص 17.
[1] المصدر نفسه، ص 80 ـ 81.
[1] المصدر نفسه، ص 82 ـ 83.
[1] المصدر نفسه، ص 78.
[1] المصدر نفسه، ص 82 ـ 83.
إضافة تعقيب