لقد سعدت جدًا حين تكرّم الأستاذ الشيخ نمر نمر ابن قرية حرفيش العامرة بأهلها الكرام، بإهدائي نسخةً من كتابه الجديد الذي يحمل عنوان: "لميحة: خواطر وحكايات" حيث اهتمَمتُ بقراءَتهِ مما حفزّني أن اكتب تعليقًا وتقريظًا لما ورد فيه، وذلك من خلال السطور اللاحقة في هذا التعقيب.
يتمحور هذا الكتاب في مضمونه بشكل شبه تام حول الصفات والسمات والمناقب للعقيلة الفاضلة للأستاذ الشيخ نمر نمر التي رحلت قبل زهاء سنتين، وبالتالي فإنه في كتابهِ هذا يسرد احداثًا ومواقف متنوعة ومتعددة مَصحوبة بانطباعاتٍ إيجابية دائمًا عن الحياة الاجتماعية والإنسانية على مختلف الصُعُد، ويتخّذ من الأسلوب الأدبي في الكتابة السردية كالكثيرين من الأدباء أسماء بديلة لشخصياتٍ معينة في الكتاب، وبالتحديد هنا يعطي الكاتب لنفسهِ اسم عبد الله بدلًا من نمر ولعقيلته الفاضلة الراحلة اسم لميحة بدلًا من سميحة وعند هذه النقطة لا بُدَّ لنا من وقفة تحليلية لاختياره اسم لميحة حيث أنَّ الكاتب يعي تمامًا أنّ مفتاح أيّ كتاب يوحي بمحتواه، وبكونهِ عتبة أساسية لمضمونه، وبما أنَّ الزوجة الراحلة كانت تتحلّى بالفضائل والأخلاق الكريمة والخصال النبيلة، فإنّ اختيار الكاتب لهذا الاسم نابع من أنَّ اسم مليحة هو اسم علم مؤنث عربي الأصل، وله معنى جميل ورائع، واصل اسم مليحة هو من الإسم المذكر وهو "لميح" وهو اسم منسوب الى اللميح، وهو ما يلمح له بالعين ويسر من ينظر اليه ويقال أن معناه المرأة الحسناء الجميلة الوضيئة الوجه فهي أيضًا المرأة الذكية والحسّاسة، بالإضافة الى المرأة حاملة العديد من الصفات الحميدة بكونها امرأة طيبة القلب وحنونة وامرأة اجتماعية ولبقة ومعطاءة بالإحسان الى الآخرين ومساعدتهم باحتشامٍ وصدق!
وهذا ما يشهد بهِ الكتاب بالتفصيل وخصوصًا في تعاملها مع أسرتها وعائلتها واعزائها من محبة وفي تعبيرها عن المشاعر الداخلية الحقيقية أمام الآخرين مما يشير الى أنّها محترمة للغاية وجديرة بالثقة، فقد عاشت مع زوجها قرابة ستين عامًا وشاركته الحياة في السراء والضرّاء كما ورد في حيثيات الكتاب.
ومما يثير الألم في مسيرة لميحة معاناتها من مرض القلب في السنوات الأخيرة من حياتها وخضوعها للعلاج في مستشفيين هما زيف في مدينة صفد، وبوريا في مدينة طبريا حيث يصف الكاتب على لسان عبد الله الزوج اخلاص وتفاني الأطباء يهودًا وعربًا في المستشفيات بالعناية بزوجته وتقديم الرعاية الفائقة لها انسانيًا وطبيًّا ممّا كان يثلج صدر عبد الله ولميحة وعرفانهما وشكرهما البالغ للطاقم الطبي الذي أبدى كل اهتمام بحالة لميحة الصحية.
ومن الطرافة بمكان أنّ الكاتب يأتي بين صفحات الكتاب من حينٍ لآخر بمقطوعات من كلمات أغانٍ لوديع الصافي وفريد الأطرش وفيروز وغيرهم، تماشيًا مع مواقف وحالات إنسانية واجتماعية بغية ادخال عنصر البهجة أحيانًا على نفسية القارئ لتعكس الحالة الوصفية آنذاك، وتارةً أخرى لوضعٍ يتسِّم بالشجن والعاطفة الجيّاشة توافقًا مع أحاسيس ومشاعر مشوبة بالحزن والألم.
ويستحضر الكاتب في إطار حديثه عن المأكولات الشعبية العربية الريفية أسماء وصور ملونّة لنباتات مشهورة ومعروفة في القرى العربية وفي بلدته حرفيش، كالزعتر والفيجن وغيرها من النباتات وازهارها المستخدمة في الطب الشعبي أحيانًا كثيرة.
ومن الجدير بالإشارة أنّ الكاتب يورد في كتابهِ العديد من الأمثال العربية العامية الفصيحة لتتوافق مع ما يتصّف به الموقف المحدّد من فرادة أو غرابة، وهذا الأمر يعكس الروح المتوهجة ثقافيًا وأدبيًا وشعبيًا التي يتمتع بها الكاتب لإضفاء حيوية الكلمة في الكتاب وتشعباتها.
ولا يفوت الكاتب أيضًا من ايراد العديد من أمثلة الشعر العربي الكلاسيكي بهدف اثراء ذهن القارئ المهتم بهذه النوعية من الأدبيات المتداولة فكريًا واجتماعيًا وترفيهيًا.
ويتطرق الأستاذ الشيخ نمر نمر عند وجوده في مشفى نهرية الى لقاء مع ثلاثة رجال دين، يمثلون الديانات السماوية الثلاث، كاهن يهودي وكاهن مسيحي، وشيخ مسلم، يمتاز كل منهم بمركز ومنصب ديني محترم، ليضاف اليهم الأستاذ نمر نمر ليصبحوا أربعة يمثلون شرائح نزلاء مشفى نهرية الحكومي ليتواصلوا ويدخلوا في نقاش ديني روحي سائرين طبقًا للتاريخ الزمني لكل ديانة تجاوبًا مع طلب ورغبة الأستاذ الشيخ نمر، كما يذكر، مستندًا كل واحد منهم على كتابه: التوراة (العهد القديم)، الإنجيل، القرآن، خاتمًا ومقدمًا أخيرًا الأستاذ الكاتب نمر نمر مداخلته عن المذهب التوحيدي الدرزي لبني معروف مستقيًا من بعض المناهل الروحية الحضارية، ليختتم كلامهُ بقصيدة عبرية دعا خلالها الى التآخي والمحبة وعدم الاكراه في الدين، راجيًا عدم تسييس الدين.
وفي باب من الكتاب أسماه الكاتب "بعد الرحيل" يتحدث الكاتب عن أجواء رحيل الزوجة الفاضلة لميحة بعد معاناة سنوات من المرض والعلاج، واصفًا الحزن الذي خيّم على المأتم، مُعَبِّرًا في وصفه عن شكرهِ لجمهور الحضور من المشيعين مُدَعِّمًا ما ينتابه من حزنٍ وأسى بإقتباساتٍ، كلامية، نثرية وشعرية من الأدب الحضاري الراقي تجاه كل من جاءَ لمواساته في هذا الموقف الأليم، وشاركه في مصابه بشتى الوسائل والطرق، مُوَدِّعًا شريكة حياته، ورفيقة دربه التي قصم رحيلها ظهور الأسرة جميعًا.
ويورد الكاتب في هذا السياق صورة مؤثرة للراحلة عقيلته وهي تقوم بعملية تحضير العجين للخبز كربّة بيت ذات طاقة ملموسة، وتحت الصورة يكتب: "وظلَّ البنون، البنات والأحفاد يرتلون: "أحنُّ الى خبز أمي وقهوة أمي.." ليسوق حنين وشوق افراد الأسرة الى الأم الحنونة المعطاءة المتوهجة بالذوق الرفيع والخير المنيع.
ويتحفنا الكاتب بحديثٍ خاص عن "الجورعة"، وهذا المصطلح معروف في نهاية المواسم الزراعية في سنوات الخير والبركة حيث تختتم بأكلة شعبية معروفة خصوصًا بعد موسم قطف الزيتون وعصره ودرسه في المعصرة، وذلك أن يقوم رب الأسرة باحضار الراحة النابلسية (الحلقوم) أو الزلابة والعّوامات المقلية بالزيت الجديد الطازج، وتوزيعها على الجيران والأقارب. وفي هذا الصدد، يكتب الأستاذ نمر نمر عن حضور عقيلته الراحلة لميحة (وفقًا لنص الكتاب) في آخر أيامها للموسم الذي قًدِّمت في بيتهم الجورعة التي ترمز عادةً الى النهاية وإنّ كان الاحتفاء خيرًا بهذه النهاية التي توحي بالخير والبركة والابتهاج في نهاية المطاف.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإنّ الأستاذ الشيخ نمر نمر يورد في ختام كتابه كلمات الأسرة من بنات وأولاد واحفاد واقرباء وانسباء يعبّرون فيها عن المحبة والوفاء لذكرى الراحلة الغالية على قلوبهم، دون أن أنسى الإشارة الى أنّ الكاتب قد أورد في فصل ختام الكتاب صورًا فوتوغرافية أَخّادة بجمالها واناقتها تتضمن صورًا ملوّنة في مناسبات اجتماعية وعائلية للمرحومة ولأفراد وأصدقاء واقرباء أسرة الأستاذ الشيخ نمر نمر الذي نترحم على فقيدته عقيلته الفاضلة السيدة سميحة التي يصدُق أَن يُقال فيها ما قاله الشيخ إبراهيم اليازجي في رثاء احدى السيدات:
محمودة الأخلاقِ عاشت بالتقى
وبصبرها فازت بحُسْنِ الخاتمة
وللاستاذ الشيخ نمر، نتمنى موفور الصحة والعمر المديد، ودوام التوفيق والعطاء.
*كفرياسيف
إضافة تعقيب