لم أشعر يوما أن أمومتي تتقد كما شعرت في الأشهر الأخيرة منذ بداية هذه الحرب، ولم أخف يوما من الفقدان كما يحصل معي في الفترة الأخيرة.
الحق أقول لكم، لم يغف لي جفن في غرفتي منذ ستة أشهر مضت، فقد بعثت هذه الحرب فيّ كل مخاوفي التي دفنتها منذ زمن للحياة من جديد. وبينما يواجه أهل غزة نيران الدمار البنيوي في محاولة للصمود وتجميع الاشلاء، فإن جبهتي الداخلية تحاول أن تقاوم نيران الدمار النفسي الذي فقد حصانته أمام هول ما اراه يوميا على البث المباشر.
منذ أشهر وكل ما يشغلني هو الخوف من الفقدان. في البدء كان الخوف من فقدان الحرية و الزج في السجن كجزء من الملاحقات السياسية بسبب أي منشور أو تعبير عن النفس قد تراه الدولة "تشجيع على الإرهاب "، تلاه الخوف من الموت عندما سمعنا لأول مرة صوت صافرات الإنذار في بلدتي والمناطق المجاورة، تلاه الخوف من الأذى والعنف بسبب أنتشار السلاح بيد المواطنين العاديين الذي نراه في كل مكان خاصة في البلدات اليهودية، والذي منعني من التحدث باللغة العربية في الأماكن العامة في المدن المختلطة وتحوّل تبادل الحديث الى همسات هنا وهناك، أما أكثر أنواع الخوف إيلاما وقسوة فكان الخوف في أعين أولادي من أب يلاعب أطفاله في الحديقة العامة في حيفا والسلاح يتدلى على جانبه.
حياتي أضحت شبكة متهاوية من المخاوف المبررة، ومهما تعددت تجليات المخاوف في هذه الشبكة الا أن جذورها معروفة وواضحة – هو العلم اليقين أن دمي وحياتي "رخيصة" وممكن أن أفقدها في أية لحظة، وعندها سيضطر أولادي الذين يعيشون من دون أب منذ سنوات أن يعرفوا معنى اليتم الذي يعاني منه 7000 طفل في غزة، حتى لو كان مؤقتا.
في كل ليلة أتكور على نفسي في كنبتي التي أضحت سريري ومكتبتي ومجلسي، محاولة خلق ملاذ آمن من المخاوف والهواجس التي تطاردني طوال الليل، الى أن تغمض عيني بغير حق وتتمرد علي، وعندها أخلد الى النوم لساعات قليلة أرتاح فيها من ذلك الخوف المستمر.
أصحو، أفتح شبكات التواصل الاجتماعي، وارى 7000 طفل تيتموا في غزة، وليس يتما مؤقتا، انما يتم حقيقي حيث لم يبق أحد من عائلاتهم التي نسفت بالكامل، ذلك اليتم الذي تتمنى الموت عوضا عنه، وهو يرمقك بنظراته المجنونة ذات الملامح الغامضة التي تنذر بمستقبل مشؤوم.
أحتضن أولادي بشدة وأشدهم الى قلبي أكثر، أقرر أنني لا أريد أن أعمل لأبقى بقربهم، فأترك مصدر رزقي لأصبح لأول مرة في حياتي عاطلة عن العمل.
يرجعون من المدرسة أستمتع بوجودهم وأفكر في أطفال غزة – كيف سيعيشون بلا أم و أب؟ كم هو مخيف أن تذهب للنوم ليلا ولا تعرف أن كنت ستصحو لتحتضن أطفالك أم ستموتون معا، وربما تتمنى سرا أن لا ينجو احد منهم ليعيش يتيما تتقاذفه الطرقات والاحزان، وكم من أب وأم تمنوا في تلك اللحظة أن يموت أطفالهم معهم حتى يتجنبوا طريقا مجهولا، ولكن لا أمنية تعلو فوق مشيئة الرب.
يا إلهي كم هو الوجع الذي لا يطاق، نربي أطفالنا "كل شبر بنذر" وفجأة من دون انذار تخطفهم يد الاحتلال وتخطف روحنا وقلوبنا معهم وتموت فينا تلك النار المشتعلة التي تحثنا على الاستمرار والبقاء...
إبني يسالني: "ماما طالعة محل بكرا؟" فأجيبه بالنفي، فيقول لي "لا تخرجي خارج البلد لوحدك أخاف أن يصيبك مكروه" وأفكر، هل توارث ابني مخاوفي؟ أم هي تلك الحرب اللعينة حطمت كل جميل فينا؟ حتى تلك المدن الوردية التي لا تسكنها الا أحلام الطفولة البريئة، دمرتها الحرب هي أيضا ولم يلن قلبها لنقاء قلوب ساكنيها.
يمر يوم آخر، أتصفح شبكات التواصل الاجتماعي، أرى الاسيرة أسراء الجعابيص تحتضن أبنها الوحيد بعد غياب سنوات، حيث حرمتها يد الاحتلال من لحظات الامومة الصغيرة، لم تستطع لسنوات تحضير وجبة الفطور ليأخذها معه الى المدرسة، حرمت من مشاكسته لها في البيت، من أن تكون "شوفيرة" كل النهار تنتقل به من برنامج الى أخر، من أن تحتضنه حين يصحو ليلا مرعوبا فتربت على راسه ليهدأ وينام، لقد حرمت من أبسط حقوقها كأم أن تقدم لابنها كل الرعاية التي يستحق، هل ستستطيع الان تعويض كل ساعات الفقدان تلك؟
أنام ثانية، أصحو، صورة أحمد مناصرة لا تفارقني، يؤلمني قلبي عليك يا بني، كيف لأم أن تنام وهي تعلم أن أبنها يقبع في زنازين التحقيق والتعذيب؟ كيف لها أن يغفى لها جفن وهي تحاول أن لا تتخيل أهوال ما يحدث له داخل السجن؟ لا أستطيع أن أفكر، دماغي قد شُل، لا أريد أن أعرف إجابة لتساؤلاتي، كم من الاهوال يجب أن تتحمل أمهات فلسطين!!
أعود بالذاكرة، "قالت لهم ستي مش تحطوه عجنب الطريق وتكملو!!" جملة لن أسناها مهما حييت، لم اسمعها في فيلم سينمائي وليست من صنع أفكار روايات الأدب عن النكبة، انها جملة سمعتها من أحدى الصديقات أخبرتها بها أمها عن جدتها التي كانت مصابة بالشلل فلم تستطع هجرة القرية كما فعل الكثيرون خوفا من أهوال النكبة والانباء عن المجازر، ولكن وصيتها الاخيرة كانت لمن تهجروا وخرجوا من قريتهم أن لا يتركوا صغارهم على قارعة الطريق لعدم قدرتهم على حملهم كل تلك المسافات الطويلة عبر الحدود... يا ترى بماذا تشعر أم اضطرت أن تضع طفلها الذي حملته 9 أشهر وحفظته آمنا في داخلها على قارعة الطريق لتنجو بأطفالها الاخرين وتصل بهم الى "بر الامان"؟ لا أريد أن أعرف.. إلهي أرجوك لا تضعني أمام هذا الاختبار يوما ما...
لا أستطيع أن أتنفس، النوم أصبح أملا بعيدا، والمخاوف كل يوم تتجلى بوضوح أكثر من ذي قبل... "لا انام" قالت فاتن حمامة، يا ترى لو كتبت هذه الرواية في زمن الإبادة الجماعية على البث المباشر، هل كانت بطلة الرواية ستحرم من النوم بسبب مشاكلها العائلية والعاطفية التي تعذب ضميرها؟ أم أن عذابات الضمير سيتسبب بها عجزها عن إيقاف الابادة وانعدام ثقتها بالإنسانية؟ والاهم من هذا، أي نهاية كان سيختار المتمرد إحسان عبد القدوس لروايته..
في الاخبار يتحدثون عن سيناريوهات حرب شاملة في المنطقة، أشعر بالاختناق، أرى العالم مشلولا، أتخيل نفسي في وسط الحرب واتساءل كيف سأحمي اطفالي؟ أشعر بالذعر، أصبح شبح الموت ورائحته تطاردني.
"فش حدا عراسه ريشة" تقول أمي، ولكنني أريد أن البس هذه الطاقية وأعتمر الريشة حتى أموت، أريد أن أصبح لا مرئية للموت والوجع، لعله يمر من هنا دون أن يراني، لعله يشفق عليّ لأنه قد حرمني الحياة مرة، ولكن أعيد التفكير في فكرتي الأخيرة هذه نظرا لأنه زار أهل غزة مليون مرة ولم يشفق عليهم ولا مرة.
يا لهذه الحرب وأهوالها، لا تمطر عليّ صواريخ ولكنها تمطر وابلا من الاشلاء البشرية والأطفال التي تحولت الى هياكل عظمية، والامهات الثكالى، والأطفال اليتم، والمجاعة... ربما لن نحتاج لترميم وزرع أطراف بشرية كما سيحتاج أطفال غزة بعد هذه الحرب ولكننا حتما نحتاج للكثير من العلاج النفسي لاسترجاع إنسانيتنا التي استنفدت وترميم ما تبقى من أرواحنا المحطمة، إن أمكن ذلك...
لا شيء يبدو منطقيا، أفكاري مبعثرة، روحي هائمة، خطواتي متعثرة...
“أمشي/ أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ" قال محمود درويش...
ليته يغمى عليّ...
في الصورة الملتقطة يوم 27 مارس 2024، أشخاص يتجمعون حول مبنى مدمر عقب غارة جوية إسرائيلية على مدينة رفح جنوبي قطاع غزة (شينخوا)
إضافة تعقيب