وأخيرًا استطاعت تلك المرأة المجهولة الّتي اختارتها الكاتبة "سما حسن" (اسم مستعار لكاتبة من غزّة) أن تقول "لا" التي لم تستطع قولها فعلًا بالصوت، بل من خلال بوحها بأفكارها، ومشاعرها ومأساتها في قصّة "لا"، وبذلك اختصرت المسافة بين قاع بطنها وحلقها لتحرّك لسانها المبتورة وتعبّر عن رفضها؛ رفضها للمجتمع الذكوريّ الذي يخنقها ببطريركيّته.
وفي "عشر دقائق" لم يكن بمقدور "وسام نبيل المدنيّ" الكاتبة الغزّيّة أنْ تقرّر قبل القصف أيّ جدار ستأخذ معها، وأيّة غرفة ستلمّها معها لتحميها من القصف، وحين استفزّوها لتستعجل هي وجنينها قبل أن يتمّ القصف كما أنذروهم، طلبت حقائب تتّسع ذكرياتها وجدران غرفتها لتترك البيت وتهرب...
وها هو الحمار يخافون من نهيقه، وقت الغزو، كي لا يفضح وجودهم في الغرفة، وليس هناك "من يغلق النافذة" للكاتب الغزّيّ "عمر حمّش"
وعادت غزّة إلى مجدها "تصدّر الفاكهة والقصص"، كما أخبرني صديقي بروفسور محمّد البوجي، الذي ساعدني على أخذ مصادقات من كتّاب غزّة لنترجمَ قصصهم إلى العبريّة، ليرى القارئ اليهوديّ من خلال الأدب ما لم يستطع رؤيته في نشرات الأخبار عن ذلك الفلسطينيّ الذي يجاوره، ومسافات البُعد لا يجسرها سوى الأدب، ذاك الأدب الذي يعكس تجارب حياتيّة، وأفكارًا، وأحاسيس، وتصرّفات، ومبادئ ومآسي وأحزانًا وأفراحًا، وعادات وتقاليد، لا تحملها نشرات الأخبار، ولا الصحف، ولا البرامج التوثيقيّة.
وشيخة حليوة تركتْها حيفا تواجه مجتمعها دون ضفيرةٍ والّتي كانت بمثابة العذريّة للبدويّة الصغيرة، وتكتشف أن للجسد لغة...
وراوية بربارة تعلّمتْ درسًا في مساق الخطابة في جامعة حيفا، حين لم تستطع هي وزملاؤها العرب أن يقنعوا المحاضر والطلّاب بأهمّيّة الطروحات السياسيّة المهمّة الّتي طرحوها في خطابهم، بينما استطاعت يفيت أن تُقنعهم بانتعال صندل في الشتاء، ممّا اضطر المحاضر أن يطلب من العرب أن يجدوا لغةً يقنعون بها أنفسهم أوّلًا قبل أن يحاولوا إقناع الآخرين. (قصّة "إقناع").
أمّا محمود شقير فقد اهتمّ أن يترك قرب شخصيّته المركزيّة/ سائق سيّارة الأجرة مقعدًا خاليًا لرونالدو الذي سيزورهم قريبًا، وتوفيق فيّاض عرف أنّ الأفعى هي الّتي قضت على الخير وعلى "أمّ الخير".
والأديب الكبير يحيى يخلف أهدى للمجموعة آخر قصّة قصيرة كتبها في المخيّمات الفلسطينيّة، والرائع إبراهيم نصر الله ترك الخيول البيضاء تركض في زمننا، أمّا الكبير الياس خوري فلم يعطنا مقطعًا من روايته فحسب، بل أعطانا الوحي لاسم المجموعة "بلسان مبتورة"، تلك المجموعة الأكبر والأكثر كمًّا وشموليّة منذ 1948 للقصص الفلسطينيّة والنثر الفلسطينيّ المترجم إلى العبريّة، وقد حرّرت كاتبةُ هذه المقالة المجموعة القصصيّة، على مدار أربع سنوات، متوخيةً الحفاظ على منهجيّة العمل المتّبعة في سلسلة "مكتوب" وأعمال منتدى المترجمين التابع لمعهد فان لير، إذ قرّرنا أن نسلك الطرق غير الاعتياديّة، كي نصل إلى النتائج غير المتعارف عليها؛ لذلك لم نترجم قصّةً إلى العبريّة دون أخذ الإذن من صاحبها، أو ممّن له الحقّ في التصرّف في العمل الأدبيّ؛ لم نترجِم القصص إلّا بمحاورة ثنائيّة اللّغة والقوميّة والحوار، وأحيانًا ثلاثيّة ورباعيّة في أخذٍ وردٍّ بين النصّ الأصليّ والنصّ المترجَم، بين الكاتب والمترجم اليهوديّ والمترجم العربيّ، ومحرّر القصّة ومحرّرة المجموعة، والمحرّرة الأدبيّة التي لم تتوان َعن محاولاتها في جعل القصص سلسةً، منسابةً، سهلة القراءة على القارئ اليهوديّ، لا تعيقه فيها لا اللغة ولا تعقيدات تنفّر القارئ عادةً من قراءة النصوص المترجَمة، ممّا كان يثير الجدل الكبير بين المحرّرة الأدبيّة والكاتب/ة، والمترجم/ة ومحرّرة المجموعة؛ ويأخذ النصّ في الكرّ والفرّ، حتّى يستتبّ به الأمر نهائيًّا، فيُحوَّل إلى المحرّرة اللغويّة؛ هذه المنهجيّة الخاصّة في "مكتوب" تحمل وراءها رسالة اجتماعيّة/سياسيّة/حياتيّة/أدبيّة مهمّة، ذلك لأنّنا عرفنا من تجارب سابقة في الترجمات الأدبيّة لعديد من المترجمين للغاتٍ مختلفة بأنّنا لا نترجم كلمات وجملًا إنّما نترجم حضارة وثقافة وعادات وتقاليد، وكما قال زميلنا وأحد مؤسّسي مكتوب الأديب سلمان ناطور رحمه الله، "إذا أردتَ أن تتعرّف إلى شعبٍ، اقرأ أدبه، فالأدب هو الصندوق الأسود لكلّ شعب"، الأدب هو الذي يحمل صورة الناس الحقيقيّة بحياتهم المعيشة وأفكارهم وأحاسيسهم ومعتقداتهم وردود أفعالهم وتصرّفاتهم....
وبالاستشهاد بوالتر بنيامين (Walter Benjamin ) في مقاله “مهمة المترجم” (The Task of the Translator)، يقول: "فلن تكون هناك ترجمة إذا كانت في جوهرها قد سعت إلى الشبه مع الأصل" كنّا مع ترجمة كلّ قصّة جديدة نتساءل ما هو الخطّ الوهميّ الفاصل بين النصّ الأصليّ والنصّ المترجَم؟ هل على المترجم أن يتدخّل في المكتوب. هل عليه أن يُعطي ممّا لديه ويغيّر في النصّ؟ ما هي حدود المترجِم؟ ومتى يصل خطًّا أحمر لا يستطيع أن يتجاوزه؟ هل الترجمة غير الحرْفيّة هي نوع من الخيانة؟ وهل الترجمة التي تظهر للعين وكأنّها شفّافة، وخالية من البصمة الخاصّة للمترجِم هي أيضًا عمل خيانة؟ وعقَدْنا العديد من ورشات العمل حول الترجمة، وتشاركْنا وتقاسَمْنا الآراء، وتوصّلنا إلى طريقتنا المغايرة في العمل، تلك الطريقة الّتي اقترحها صاحب فكرة إقامة المجموعة، ومديرها الحاليّ عالِم الاجتماع والمترجِم، بروفسور يهودا شنهاف شهربانيّ ، الذي يرى في الترجمة واللغة جسرَ تصالحٍ بين الشعوب، والذي كان قد كتب تظهيرَ الكتاب بشكل مقالٍ علميّ تطرّق فيه إلى تاريخ الترجمة من العربيّة إلى العبريّة وسوسيولوجيتها وسياستها، ذاكرًا أنّ أوّل مجموعة تمّت ترجمتها من العربيّة إلى العبريّة في البلاد، كانت بعد حرب 1967، إذ نُشرَت بمبادرة من الأديب اليهوديّ بروفسور شمعون بلاص، عام 1970 ولأوّل مرّة مجموعة نثر فلسطينيّ بعنوان "قصص فلسطينيّة"، وشملت قصصًا لعدد من الأدباء الفلسطينيّين من بينهم غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وحنا إبراهيم وتوفيق فيّاض وسميرة عزام. وتتالت المحاولات حين حرّر سنة 1974 أنطون شماس أنثولوجيا ثنائيّة القوميّة شملت نصوصًا أدبيّة فلسطينيّة وعبريّة، وعام 1988 صدرت مجموعة "جنود من ماء" تحرير وترجمة نعيم عرايدي ونبيل طنوس، وعام 1997 صدرت مجموعة قصص فلسطينيّة بتحرير وترجمة موشيه حخام، وعام 2014 صدرت مجموعتان إضافيّتان"שתיים ، اثنان" أنثولوجيا ثنائيّة اللغة بتحرير تامر مصالحة، تمار فايس-جباي وألموج بيهار - و"نكبة لايت" بتحرير الطيب غنايم ويوسي جرنوفسكي وقصص قصيرة بقلم شباب من أبناء الجيل راجي بطحيش تمارا ناصر، مجد كيال، وإياد برغوثي.
ومع نهاية العام المنصرم 2019، صدرت المجموعة الأكثر شموليّة للنثر والقصّ الفلسطينيّ المترجم إلى العبريّة، "بعد خمسين عامًا على نشر مجموعة بلاص ترى مجموعة "بلسان مبتورة" النور كمبادرة فريدة من نوعها للأدب الفلسطينيّ بالعبريّة، لا يكون فيها الصوت اليهوديّ وحده بل هي نتاج مشروع ترجمة جماعيّ يعمل وفق نموذج خاصّ، هو الأوّل من نوعه من حيث كونه يضمّ يهودًا وفلسطينيين يديرون فيما بينهم حوارًا نصيًّا وشفهيًّا حول الإمكانيّات الكلاميّة للّغة. تعرض المجموعة أمام جمهور القراء 73 قصّة، قصصًا قصيرة وقصصًا قصيرة جدًّا، وفصولًا وشذرات من مذكّرات لـ 57 كاتبًا وكاتبة فلسطينيين. إنّها المجموعة الأشمل للأدب الفلسطينيّ المنشور بالعبريّة، وهي تشمل عددًا غير مسبوق من المبدعين والمبدعات، بدءًا من كتّاب ولدوا في أواخر الامبراطوريّة العثمانيّة وصولًا إلى كتاب ولدوا عند حدود الألفيّة الثالثة؛ من كتّاب معروفين لكلّ قارئ، إلى كتّاب هذه هي قصّتهم الأولى. ربع الكتّاب تقريبًا هم شباب ولدوا بعد 1967، وحوالي نصفهم فلسطينيّون لا يعيشون في إسرائيل إنّما في غزة والضفة والشتات فقط ربعهم تقريبًا هم من النساء، وذلك رغم الجهود الكبيرة التي بذلناها لإيجاد كاتبات إضافيّات معنيّات بالمشاركة في المجموعة. يبرز هذا النقص بشكل خاصّ في الباب الأخير الذي يعتمد على المذكّرات، حيث لم نوفّق في الحصول على حقوق نشر لسير ذاتيّة نسائيّة كانت قد نشرت بالعبريّة في السابق لكاتبات مثل سحر خليفة وفدوى طوقان. يشارك في المجموعة 42 مترجمًا، 11 منهم فلسطينيًّا، و18 امرأة، وبعضهم مترجمون ومترجمات مخضرمون يمتدّ عملهم في حقل الترجمة على مدى ستّة أو سبعة عقود، وآخرون بدؤوا طريقهم في هذا الحقل مؤخّرًا" (يهودا شنهاف- تظهير الكتاب).
وأخيرًا استطاع الفلسطينيّ مبتور اللسان أن ينطق، ذاك الفلسطينيّ الذي أخرسه الكاتب اليهوديّ أ.ب. يهوشع في "أمام الغابات"، حين أراد اليهوديّ التقرّب من العربيّ حارس الغابات وابنته، "واتّضح بأنّه عربيّ مسنّ وأخرس، قطعوا لسانه في الحرب، هم أم نحن، هل يشكّل ذلك أيّ فارق؟ من يدري ماذا كانت الكلمات الأخيرة الّتي علقت في حلقه؟" (أ. ب. يهوشع. أمام الغابات، تل أبيب: هكيبوتس همؤوحاد، 1968، ص. 18-23)، هذه الثيمة تردّدت لاحقًا، عن الفلسطينيّ الذي لا يستطيع البوح، الفلسطينيّ الأخرس، ففي رواية "أولاد الغيتو، اسمي آدم" (الياس خوري، دار الآداب 2017، ص.98) يبوح آدم الفلسطينيّ لصديقته اليهوديّة دالية "لم أبح لدالية بحكايتي لأنّ لساني كان مقطوعًا"، وتتكرّر الثيمة في الجزء الثاني من الرواية "ستيلا مارس":
"لكنّك أخرس، ألم تقل إنّ أهمّ ما في رواية عاموس عوز أنّه التقط حقيقة أنّ الفلسطينيّ لا يحكي وممنوع من الكلام؟ ثمّ قام يهوشع بقصّ لسانه؟ ستكون الكاتب المصاب بالخرس، هناك كثير من الكتّاب العميان، أمّا الكاتب الأخرس فستكون أنت" (الياس خوري، ستلا ماريس، ترجمة يهودا شنهاف شهرباني. تل أبيب والقدس، معهد فان لير، وكتب يديعوت أحرونوت 2019).
إنّ هذه الثيمة عن اللسان، واللّغة، والتواصل المبتور، والصمت، والبوح، كانت الثيمة السائدة في أغلب قصص المجموعة، إذ نجد الراوي الضمنيّ يتحاور مع الراوي الحقيقيّ ومع الكاتب حول إمكانيّات التعبير، "كما سنجد اللسان المقصوصة لألف لسان، والتي حملت الإشاعة التي نشرتها العجوز الحدباء صاحبة اللسان الحادة ("خفق السنديان"، محمد نفاع) والتي لا بدّ أنّها من ضمن هؤلاء الذين يملكون فمًا واسعًا وعنيدًا يتمرّد على سطوتهم ("فم"، ماجد أبو غوش). وهناك لسان اللعنة لدى الشاعر الجاهلي زهير الذي يقال عنه بأنّه كرّم كل واحد من أعدائه بلعنة تليق به حتى جلب لنفسه الخراب وخسر كلّ جماله ("اللعنة"، محمد علي طه)." (من تظهير الكتاب- يهودا شنهاف شهرباني)
وهكذا أضفنا إلى مترجمات "مكتوب" من أدبنا العربيّ والفلسطينيّ، وأضفنا إلى إرثنا الأدبيّ النثريّ المترجَم إلى العبريّة مجموعة أنطقت أدبَنا وأدباءَنا بعد "خرَسٍ" دامَ طويلًا، أو إخراسٍ أبعدَنا عن المجاورة الحقّة والحوار الاجتماعيّ الصادق؛ وتمّ لنا ذلك بجرأةِ أدبائنا الذين اختاروا نصوصهم بحريّة تامّة، ووافقوا أن يشاركونا مشروعنا الكبير؛ وتمّ لنا ذلك بمشاركة ثنائيّة القوميّة في الترجمة غير مسبوقة محلّيًا؛ وباعتبارات مهنيّة في كلّ عمليّات التحرير الأدبيّة واللغويّة، ومقارنة النصّ الأصليّ بالمترجَم، هكذا صدرت إلى النور مجموعة قصصيّة مميّزة بمضامينها، وباتّساع الرقعة الجغرافيّة الّتي تمثّل الوجود الفلسطينيّ في البلاد وفي الشتات، وشموليّة الاعتبارات الأخرى كالاجتماعيّة والجندريّة والمراحل العمريّة للأدباء وللمترجِمين.
بالترجمة أنطقنا ما خرس من أدبنا؛ ومشاريعنا في "مكتوب" كثيرة منشورة عبر موقعنا، تنتظر القرّاء والنقّاد والباحثين الأكاديميّين والاجتماعيّين، علّ الأدب والترجمات تجسر الهوّة بين الشعوب وتبني جسورًا للسلام.
"بلسان مبتورة"، مجموعة قصصيّة ونثريّة، أدب فلسطينيّ مترجَم إلى العبريّة، تحرير راوية جرجورة بربارة، ترجمة مجموعة من مترجمي "منتدى المترجمين"، إصدار سلسلة "مكتوب"، ومنشورات يديعوت أحرونوت، معهد فان لير، القدس 2019.
إضافة تعقيب