أعرف أنّ الوقت يداهمنا، وأنّ التحضيرات لانتخابات الكنيست في أوجها، ولكن عملا بالمثل الإنجليزي القائل: "متأخّر أفضل من لا شيء"، ورغم التأخر، ارتأيت أن أكتب اليوم في موضوع الانتخابات الشائك، مدفوعًا بأمرين، الأول، ما تنشره صحيفة "الاتحاد" تباعًا في المدّة الأخيرة، من نداءات متكرّرة صادرة عن الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة، مفادها أنّ الباب مفتوح أمام الجميع للتحالفات، ولخوض الانتخابات سويّة، حرصًا على توحيد الصف والكلمة. والثاني، ما كتبه عدد من الأخوة والأصدقاء من العقلانيين والحريصين على المصلحة العامة، أعني مصلحة الأقلية العربية في البلاد، حول التحالفات.
أنا بدوري أضم صوتي لتلك الأصوات التي تنادي بالتحالف، وأقول: فعلا، لقد حان الوقت لمثل هذه التحالفات، خاصة اليوم وفي ظل ما يجري اسرائيليًّا وعالميًّا، وذلك لأسباب عدة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:
ما نشهده اليوم من هجمة شرسة، لا بل هي الأشرس في تاريخ الدولة، من الأحزاب الصهيونية على تشظّياتها، على الأقلية العربية، هذه الهجمة التي توجّتها تصريحات تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية، وكذلك نعيب البوم العنصري الوقح أفيغدور ليبرمان، وغيرهما، التي تدعو إلى ترحيلنا عن وطننا وفي أحسن الحالات إلى تهميشنا. هذه التفوهات الوقحة، تلح على ما ذكرته سابقًا، وتدعو إليه- أعني التحالف. هذا بالإضافة إلى الانفلات العنصري الذي يستشري هذه الأيام، والاعتداءات المتكررة على مقدّساتنا، وتضييق الخناق على أهلنا في الخليل وسائر أماكن تواجد شعبنا، وحصار غزة وتجويع مواطنيها، والمخاتلة والمراوغة في المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية، التي تشي بعدم مصداقية الطرف الإسرائيلي، وبتكريس الوضع القائم. أضف إلى ذلك الوضع الاقتصادي الخطير عالميًّا وإسرائيليًّا، الذي يدفع بقوّة نحو البطالة، ويدعو إلى القلق والخوف على لقمة العيش للكثير من عمالنا وموظّفينا وأصحاب المصالح الصغيرة، وهم الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا، وهم أول من سيدفع ثمن هذا الوضع، فهم دائمًا مستهدفون لأنّهم الحلقة الأضعف في سوق العمل الإسرائيلي في المفهوم العنصري.
وكذلك ما شاهدناه قبل شهر تقريبًا، في انتخابات السلطات المحلية العربية، من تشرذم وافتئات وتمزيق للحمة والنسيج، والتقوقع العائلي والطائفي وتقزيم دور الأحزاب السياسية الفاعلة والمهتدية بأيديولوجيات وثوابت وقناعات معيّنة على تنوعها. هذا الأمر كفيل بأن يدعو هو الآخر إلى القلق، كما أنّه كفيل بأن يجعل كل صاحب ضمير ومحب للمصلحة، أن يمسك رأسه ويفكّر بهدوء ورويّة في مستقبل شعبنا. ذلك لأن الافتئات والتشرذم العائلي والطائفي لا يمكن أن يفيدانا في حل قضايانا- وهي كثيرة- بل يزيدانها حدّة واشتعالا وتفاقمًا، ويضرّان بكل الإنجازات التي حقّقناها بنضالنا الجماعي وبدمع العين وبعرق الجبين على مرّ السنين.
إنّ التمزق المذكور آنفًا يظهرنا أمام الآخر كشعب ضعيف سهل الكسر وسهل الاختراق، ونحن للحقيقة لدينا قضايا عالقة كثيرة تحتاج إلى حلول، لكن طالما نحن ممزّقون متشرذمون، كل يغنّي على ليلاه، وبطريقته الفردانية الخاصة لا يمكن أن نصل إلى حلول لها مرضية. وكي نثبت أنّنا شعب قوي واع لا يمكن اختراقه، ولا يمكن للسلطة مهما تحايلت أن تلهيه عن قضاياه الرئيسية وعن احتياجاته وحقوقه، كما أنّه إذا أردنا أن نفرض احترامنا على السلطة وإرغامها على التعامل معنا كشعب لا كطوائف وحمائل وفئات ومجموعات، لا مفر لنا من التحالف سويًّا، ومن التلاحم والوقوف صفًّا واحدًا أمام كل الهجمات والانفلات العنصري وهضم الحقوق.
أقول هذا الكلام وأنا على علم ودراية من أنّه كلام محفوف بالكثير من المشاكل، ولكنّني على ثقة من أنّنا بوعينا وبحرصنا على المصلحة العامة قادرون على نبذ الخلافات التي بيننا، فهي تتقزّم أمام الحاصل الآني وأمام ما ينتظرنا مستقبلا، فما يجمعنا على الساحة المحلية هنا أكثر بكثير مما يفرّقنا. إنّ خلافاتنا التي جرّت معها إساءات كثيرة وتراشقات كلامية، سواء ما حدث منها في الجامعات أثناء انتخابات لجان الطلاب، أو في انتخابات السلطات المحلية ومجالس العمال، ولا أريد أن أدخل هنا في تفاصيل هذه الخلافات ولا أن أتّهم، لأنّ ذلك يحرفنا عن الهدف، هي برأيي خلافات مظهرية تقوم على نزق، وعلى احتقان مرحلي، لذلك مصير صوتها أن يخفت ومصيرها أن تزول، إذا ما عرفنا كيف نلمّ شعثنا ونرصّ صفوفنا.
المرحلة اليوم تستدعي نبذ الخلافات وتتطلب الألفة والتقارب وتقريب وجهات النظر. المرحلة تستدعي البحث عمّا يؤلّف ويجمّع لا عمّا يشتت ويفرّق. من هنا أدعو جميع المسؤولين في أحزابنا السياسية الفاعلة أن فتّشوا عن القواسم المشتركة التي تجمعنا وابتعدوا عمّا يمزّقنا وقد قالوا قديمًا، وكم صدقوا: "إذا الرعاة اختلفوا، تجرأ الذئب"، والذئب على الأبواب ينتظر وقد كشّر عن أنيابه، فلنلقمه حجرًا يهشّم هذه الأنياب. ولكنّ هذا الحجر لا يمكن له أن ينطلق ويصيب الهدف إلا إذا كنّا متحالفين موحّدين، نقف صفًّا واحدًا، لندفع كل شر عن شعبنا، ولنجهض كل المخططات والمؤامرات العلنية والسرية التي تحاك ضدّنا. وأنتم أيها المسؤولون تعرفون كيف تعملون سويًّا، فمواقف مشرّفة كثيرة تشهد لكم على ذلك في الماضي، اتخذتموها سويًّا وقطفنا معكم بواسطتها الثمار.
شعبنا اليوم لكثرة ما عانى، ولفرط ما قاسى منذ النكبة حتى اليوم، ما عاد يحتمل الخلافات ولا عاد يطيق التشرذم والتقوقع، شعبنا اليوم لكثرة ما تعمّد في التجارب، ما عاد يرضى بالفرقة، بل صار يطمح- وهو مطلب الساعة- إلى التحالف والتوحد، وصار يتشهى لحظة نصر، لحظة فرح، تتمتّع بها كل أطيافه- ولا أعتقد أنّ أيّ طرف أو حزب لا يريد له ذلك.
إنّ تحالفنا ينتشلنا من ضائقات كثيرة، أهمّها قضيّة رفع نسبة الحسم، إذ أنّ أخشى ما أخشاه، أن يؤدّي رفعها إلى بعثرة أصواتنا، وإلى ضياع الكثير منها إذا لك تنجح إحدى قوائمنا في الوصول إلى نسبة الحسم المقررة، وهذا ممكن الحدوث إذا ظللنا مبعثرين. إنّ ضياع الأصوات وحرقها سيكون ضربة موجعة سنندم عليها لاحقًا، حين لا ينفع ندم. تحالفنا سيؤدي حتمًا إلى نجاح كبير وإلى زيادة تمثيلنا في الكنيست، وإلى إنقاذ أصواتنا، وربّما سيؤدي إلى أن نكون إحدى القوى الكبيرة الأساسية، وعندها سيزداد تأثيرنا في توجيه سياسة الدولة وفي فرض مطالبنا وتحقيق حقوقنا وحل مشاكلنا. تحالفنا سيكون إنجازًا كبيرًا معه نقطف ثمار النصر، وعندها سينعكس هذا النجاح، إذا عرفنا كيف نتدبّره ونديره، على كل مؤسساتنا، كما سينعكس على إخواننا في الضفة والقطاع وسيشكّل لهم نموذجًا لرأب الصدع وإعادة اللحمة، هذا بالإضافة إلى أنّنا إذا خضنا الانتخابات متحالفين، سنفوّت الفرصة على أحزاب صهيونية كثيرة تطمع بالصوت العربي، فتحالفنا سيجعل صاحب ذاك الصوت بخجل من نفسه لأنه سينبذ من الجميع.
ولكن ونحن نتحدّث عن التحالف، يجب أن نكون حذرين، ذلك لأن للتحالفات ضريبتها وشروطها، وهي مكلفة تتطلب التضحيات. وشروط التحالف الأساسية وأرضيتها الثابتة الراسخة في نظري يجب أن تنطلق من ثوابت أساسية ثلاثة، أوّلها العلمانية، فنحن شعب يسعى إلى الدمقراطية والانفتاح والتقدم العلمي والثقافي والتقني والاجتماعي والحضاري، لا إلى الانغلاق والعمى.
وثانيها، المشاركة العربية اليهودية، لأنّنا نعي تمامًا استحالة نجاحنا في تحقيق ما نطمح إليه دون مشاركة إخواننا من الطرف اليهودي. وحين أقول المشاركة العربية اليهودية، أقصد تلك القوى اليهودية اليسارية المنفتحة الثورية التي وقفت إلى جانبنا وناضلت معنا ودفعت الثمن. نحن نحترم كل الشعوب، ونعي تمامًا أنّنا نعيش في دولة مشتركة القومية، الأمر الذي يحتّم علينا التفتيش عن الأصوات الداعية إلى العيش الكريم المشترك، وهي كثيرة اليوم. ونظرة إلى ما حصل في تل أبيب في انتخابات البلدية، وإلى نسبة الأصوات التي حصل عليها مرشح الرئاسة دوف حنين هناك، تشي بما أقول.
وثالثها، لنكن صادقين مع أنفسنا وصريحين، التحالف له ضريبة، وهي لا تعني لعبة اقتسام المقاعد، بل تعني أن نفتّش عن طريق الملك، وأن نفكّر بالربح الجماعي والمصلحة العامة، لا الفردية. فقضية التمثيل في قائمة مشتركة يجب أن تنبع عن موضوعية وعن حسابات عقلانية لا عن أنانية.
هذه الشروط، إذا ما اتفقنا عليها، تصبح العملية سهلة وقابلة للتنفيذ، ولنتمثّل بتجربتنا الرائعة التي حصلت في انتخابات بلدية نتسيرت عليت، حيث خضنا هناك المعركة الانتخابية هذه السنة في قائمة عربيّة مشتركة، جمّعت قوانا وقطفنا معها مقعدين وكدنا نحصل على الثالث لولا تقاعس البعض. جاء هذا الفوز بعد أن كنّا مفرّقين لا تمثيل لنا في الدورة السابقة. إنّنا نتوق اليوم إلى مثل هذا التحالف.
شعبنا يستحق منا التضحية، ومصالحه تتطلب التحالف، لأنّه بالتحالف فقط نمنع حرق الأصوات وتمزيق قوّتنا، ونحن قادرون على ذلك، إذا ابتعدنا قليلا عن أنانيّتنا. وحين أقول التحالف لا أعني فك الأحزاب القائمة وانصهارها في حزب واحد، فالتعددية في مجتمع دمقراطي علماني كالذي نسعى إليه، إيجابيّة، وإنّما أعني قائمة عربية يهودية علمانيّة مشتركة، تجعلنا قوّة كبيرة في الكنيست، قوّة ذات شأن وخطورة تفرض على السلطة التعامل معنا باحترام، وليحافظ كل حزب على ثوابته وقناعاته الأساسية، فهذا لا يضيرنا.
لتكن صرختنا اليوم التحالف. ليكن مطلبنا من الأحزاب الاتفاق والوفاق واليد الواحدة لنزيل عن جسد شعبنا ركامًا من الأورام جمّعتها فرقتنا، وأكوامًا من المعاناة وهضم الحقوق فرضتها علينا السلطة.
ما من شيء يرد علينا كرامتنا وهيبتنا، ويرتق ما تفتّق من خيوط عباءتنا ويحقق مطالبنا، ويزيد احترام الآخرين لنا، ويجعلنا نشعر بقوّتنا وبوجودنا، الثابت الراسخ على أرض وطننا، سوى هذا التحالف، فهلمّوا إذًا نسعى إليه ونحقّقه، فنحن قادرون، وللجميع متّسع على هذه الأرض.