البيان الشجاع الذي أدلى به ريتشارد فولك، خبير الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يوم الثلاثاء 9/12/2008، تعبير دقيق صارخ، بما حوى من مضامين في وصف سياسة العقوبات الجماعية التي تقترفها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، على أنها " توازي جريمة بحق الإنسانية " مما يدعو إلى " تحرك عاجل لتطبيق المعيار المتفق عليه حول مسؤولية حماية السكان المدنيين الذين يتعرضون لعقاب جماعي من خلال سياسات توازي جريمة ضد الإنسانية " وأكد فولك خبير الأمم المتحدة على وجوب قيام " المحكمة الجنائية الدولية بممارسة ومعالجة التحقيق حول الوضع، وتحديد ما إذا كان يتعين توجيه التهمة إلى المسؤولين المدنيين الإسرائيليين والقادة العسكريين المسؤولين عن حصار غزة وملاحقتهم بتهمة إنتهاك القانون الجزائي الدولي ".
واستخلص فولك إلى أن " هذا الكم الكبير من الإدانات من قبل مسؤولي الأمم المتحدة الذين يتوخون الحذر عادة، لم يحصل على المستوى العالمي منذ انقضاء مرحلة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا".
شهادة إدانة بلا مواربة أو تضليل أو تمويه، من شخصية دولية، لا مصلحة له مع الشعب الفلسطيني الضعيف المعزول، ولا مصلحة له في معاداة إسرائيل والحركة الصهيونية وقطاع واسع من اليهود النافذين على المستوى العالمي، ولا مصلحة له أيضاً في التصادم مع السياسة الأميركية الراعية للمشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي، فالفلسطينيون والعرب والمسلمون والمسيحيون لن يكافؤه، وإسرائيل وداعموها والمؤيدون لها لن يسامحوه ولن يغفروا له وسيحطموه فيما بعد، وهو يعرف ذلك، ولهذا وصف مواقف المسؤولين في الأمم المتحدة على أنهم حذرون في العادة حينما يتعاملون مع إسرائيل، ولكن سياساتها وإجراءاتها وعقوباتها الجماعية طفح كيلها وباتت مشاهداته وشهادته واجبة، حافزه في ذلك وعيه المهني وحسه الإنساني، فأدلى ببيانه وشهادته، ولكن ما هي الخطوة المقبلة، وممن؟!
ثمة ثلاثة أطراف يصنعون الحدث ويؤدون أدوار " البطولة " على خشبة المسرح القائم: أولهم إسرائيل التي تصنع الحدث وتقدم الوقائع وترتكب الجريمة، علناً بوجود الأدلة والأدوات والضحية، وبقرار مسبق.
وثانيهم وجود شهود دوليين، ضمائرهم حية وخبراتهم غنية، يتمتعون بالمصداقية وغير مطعون بنزاهتهم في تقديم الشهادة كما فعل ريتشارد فولك، ليس فقط بصفته الشخصية، بل بما يمثل كصاحب وظيفة رفيعة المستوى وكخبير للأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وثالثهم الطرف الفلسطيني والعربي والإسلامي والمسيحي والمجتمع الإنساني، أصحاب المصلحة في إدانة إسرائيل واستنكار إنتهاكاتها وتجريمها، ومن ثم فرض العقوبات الدولية عليها إسوة بما جرى لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا البائد، حتى تتراجع عن جرائمها وانتهاكاتها الفظة.
إدانة إسرائيل، من قبل خبير الأمم المتحدة، ومن قبل غيره من المسؤولين الدوليين، ليست صرخة في واد، عديمة التأثير والفعل، بل إنها تترك بصماتها وفعلها داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وعلى كبار المسؤولين العسكريين الذين يترددون في إظهار نواياهم أو في الإستعداد العلني لتحمل مسؤولياتهم عما يجري في قطاع غزة أو لقطاع غزة، وأبرز شخصية ينطبق عليه هذا التأثير إيهود باراك نفسه وزير الدفاع، حيث يرفض الإنصياع لرغبات المتطرفين ويطالب بغطاء قانوني لأي فعل عسكري ضد قطاع غزة رداً على إطلاق الصواريخ، ودوافعه في ذلك ليس نبلاً من ذاته أو رأفة بأوجاع أهل القطاع المحاصر، بل خشية من تعرضه للمساءلة القانونية الدولية، وحتى لا ينهي حياته العسكرية والسياسية مطارداً كمجرم حرب إرتكب جرائم ضد الإنسانية.
لذلك ثمة معركة أخلاقية وقانونية ودولية يجب خوضها ضد إسرائيل، والعمل بدأب على هزيمتها على هذا الصعيد، وهي معركة لا تقل تأثيراً ونتيجة عن كل المعارك الكفاحية التي خاضها الشعب الفلسطيني ضد محتليه ومستعمريه وسارقي أرضه ومغتصبي حقوقه، معركة لها أدواتها ومنابرها ونتائجها المدمرة لإسرائيل والمبشرة لفلسطين، حيث تقف إسرائيل في قفصها، والشهود الدوليين وشجاعتهم على المنصة، والضحية وأوجاعها وجوعها وعذاباتها، الواضحة العلنية، على أيدي جيش الإحتلال وأجهزته ومستوطنيه كمحامي اتهام بليغ اللسان، أي أنها معركة تحتاج لبرنامج دبلوماسي وسياسي وبرلماني وحقوقي، وفعل فلسطيني متواصل مثابر دؤوب، كما يفعل ياسر عبد ربه وسري نسيبة مع الإسرائيليين وكما فعل أحمد قريع في منتدى السلام المتوسطي مع الأوروبيين، وكل منافذ إختراق المجتمع الإسرائيلي، والأوروبي، والأميركي، بما في ذلك كسب إنحيازات إسرائيلية وأوروبية وأميركية لعدالة القضية الفلسطينية وشرعية نضالها.
الفلسطينيون بحاجة لفتح معركة قانونية تقوم على مبادئ الشرعية الدولية، وتعمل على إنفاذ قرارات الأمم المتحدة، مسنودة بانتفاضة شعبية ذات طابع مدني غير عنيف، لانتزاع تضامن دولي، وفي مقدمته تضامن إسرائيلي، يهزم الإحتلال والتوسع والإستيطان، ويؤكد على التعايش والمساواة لإنهاء الصراع وكنس الإحتلال، على قاعدة اقتسام الأرض بإقامة دولتين متجاورتين، أو اقتسام السلطة بإقامة دولة ديمقراطية واحدة متعددة القوميات والديانات، ولا خيار آخر غير هذين الخيارين.