تبلغ تكلفة الطائرة الحربية إف-16، بطرازها الجديد (F-16-I-2006)، نحو 70 مليون دولار. سابقاتها الأقدم أقلّ تكلفة، لكنها تظلّ هي الأخرى بعشرات الملايين. وهذا لا يشمل وقودها ولا تسليحها بتقنيّات القتل. أي أنه في حوالي الحادية عشرة والنصف من صباح السبت الدموي 26 كانون الأول 2008، كانت سماء غزة تتمزّق بمئات ملايين الدولارات الأمريكية أو أكثر، على صورة سرب من طائرات اف-16 الأمريكية التي قادها شبّان إسرائيليون، وألقوا منها، بأرفع المنظومات الرقميّة، حممَ القتل والتدمير على إحدى أفقر بقاع العالم، على قطاع غزة المكتظّ المحاصَر المحتلّ.
كيفما أطلّ المرء (صاحب الضمير، أقصد) على هذا العدوان المجزري، لا فرق من أية زاوية، سينتابه الشعور بالغضب والألم والنقمة. مع ذلك فهناك جانب لا يبعث سوى على الغثيان، على القرف.
إن مشهد، أو مجرّد فكرة، قصف قطاع غزة الفقير بهذا الكمّ الهائل من البارود القاتل، بهذه النوعية الدقيقة من السلاح ومن هذه الطائرات عالية التطوّر، هو أمر يسمّم العقل والقلب والحلق بالغثيان. هو الغثيان من بشاعة هذا الاستعلاء وهذه الغطرسة المتوحّشة. هناك انعدام تام صارخ حتى السّماء لأي تكافؤ عسكري، بالأحرى لتكافؤ القوّة، لكن هذا لا يمنع دولة الترسانة العسكرية الأكبر في هذه المنطقة من إخراج كامل قوّتها للفتك بمن يكادون لا يملكون شيئًا. هناك وحشية بلا حدود في هذا، لكن هناك أيضًا جبنًا وخسّة بأقصى الحدود. إنها خسّة مَن لا يملك ذرّة من شهامة المحارب، وسأفترض أنه يجب أن تكون شهامة لدى المحارب أيضًا. إن المتيقّن من تفوّق قوته ولا يتورّع عن إخراجها بالكامل الى حيز التنفيذ ضد ممن لا يقاربه أبدًا في القوّة، هو نذل. هذا الجيش الاسرائيلي الكبير القوي المدرّب المجهّز يتصرف كنذل يتلذّذ بساديّة بتفوقه العسكري على أهالي إحدى أفقر بقاع العالم.
كثيرون يتحدثون بحقّ عن قتل الأطفال والمدنيين العزّل في بيوتهم. لكن الفظاعة هي أنّ حتى هذا بات أمرًا معهودًا لدى إسرائيل. رتابة التوحّش هذه مرعبة بالمعنى الإنسانيّ الوجودي العميق. هذا المتوحّش هو إنسان، إنه مثلك، إنها ينهش إنسانيتك بمجرد انتمائكما الإنساني المشترك. ما يفوق ذلك فظاعة، هو ما يغيب خلف دخان القتل والتدمير؛ هو دقّة بشاعة هذه الخسّة، حيث يقضي فقراء مُعدَمون محاصَرون بنيرانٍ مُهندَسَة بأعلى التقنيّات. إنها بشاعة الحداثة الصورية حين تُفرّغ من أية أخلاق، حتى من أخلاقيات الحرب، وسأفترض أن للحرب أيضًا أخلاقيات.
حتى لو استطعنا، افتراضًا، تجريد المشهد الدموي من جميع خصائصه السياسية؛ حتى لو نجحنا في إخراجه من جميع سياقاته السياسية؛ سيظلّ المشهد العاري الوحيد، هو قتل جماعي ينفذه شبان من شرائح إسرائيل الغنية، بحق فقراء غزة الفلسطينيين، بواسطة أحدث وأغلى الطائرات الحربيّة الأمريكية. من الصعب العثور على تجسيد أدقّ لمفهوم الغثيان مقابل أحد أدنى أشكال التبلّد الإنساني.
ولكن عليّ أن أستدرك: هذا المشهد العاري، حتى لو جرّدناه من خصائصه السياسية المباشرة، هو أقوى المشاهد السياسيّة. هنا تكمن السياسة الخالصة، تلك التي تتجلى فيها البشاعات المجرّدة، الغطرسة المجرّدة، والغثيان المجرّد. هي أيضًا، الصورة المجرّدة للثقافة السياسية المنحطّة التي تحكم هذه الدولة. وهي ما يبعث أيضًا على الامتلاء بالإصرار العميق على رفض ومقاومة هذا الانحطاط، حتى يظلّ الإنسان إنسانًا، على الأقلّ..