news

تحت الخروبة


 هناك، على التلة، في منطقة القلعة من الجهة الغربية من قرية دير حنا، وفي منطقة وعرية غنية بالذئاب والضباع والثعالب والكلاب السائبة المسعورة والغربان، انتصبت خروبة باسقة وارفة الظلال، خضراء، تفيّأها رجل جليل في الخمسينات من عمره مالت عليه طوارق الدهر ونائبات الحكم العسكري، افترش الارض وتوسّد حجرًا وعلى احد فروع الخروبة تدلّت بطانية رماديّة هذا كل ما سمح به الحكم الجائر الذي قضى بنفيه عنوة الى هناك ، في الليل تلفّه الظلمة وتلفّعه الوحدة وتسامره نجوم السماء السابحة في الفضاء، وعواء الذئاب ونباح الكلاب وضباح الثعالب، وفي النهار يشنّف اذنيه طنين البرغش وينعم بلسعات الذباب وهو يتلظى من الجفاف والحر القائظ، نسمات عليلة هبّت في يوم قائظ من الجهة الغربية حاملة معها جرعات من الصمود وبلسم الاباء تداعب شاربين كثيفين تربعا تحت انف بارز على شفة مكتنزة، وقد خاطهما الشيب، ووجهًا اسمر تجلت فيه اصالة العروبة القُحّة، وعند عرق الشجرة انتصبت عصا غليظة، وامامه نقرة، يحيط بها بعض من الحجارة احتضنت جمرًا من قرامي السنديان تجثم في داخلها أباريق القهوة الصفراء التي مرّغها السواد لا ينفك عن الترحيب والتهليل بلهجته البدوية المحضة الخالصة لمن تجرّأ على زيارته المحظورة.
جيء به قسرًا من وادي سلامة ليقبع هناك وتحت مراقبة دوريات الشرطة بين الحين والآخر ليلا ونهارًا ، تاركًا وراءه عائلة كريمة زوجة واولادًا واحفادًا، وبيتا من الشعر واسعا ورحبا وحظيرة للمواشي فيها من الابقار والاغنام والماعز وماءً سلسبيلا يتدفق بغزارة ليروي الارض الطيبة بما فيها من اشجار المشمش والخوخ والدرّاق والتين والصبار و الباذنجان والملفوف والقرنبيط والفلفل الى تلك البساتين الخضراء الغضراء ترى النساء العرابيات والديرويات يتقاطرن وهنّ يحملن بين ايديهن او على رؤوسهن بعضا من القمح او البرغل او الذرة ليقايضن الحبوب بالملفوف وبعضهن يقايضن البرغل (بالشنينة) ليحملنه على رؤوسهن في الجِرار من الفخار او دسوت من النحاس، ونحن كوكبة من الاتراب الفتيان نتقافز ونغير على قرامي الملفوف نقتلعها ونأخذ بتقشيرها نلتهمها بنهم وجشع نملأ بها بطوننا الخاوية، وفي غضون تقافزنا، جاءنا احد الاتراب واشقانا بفكرة ان نعرّج على بيت الشعر المجاور للبساتين، فبفراسة البدوي وحداقته وذكائه طلّت علينا بوجهها الاسمر البهي تلك المرأة البدوية البهية والانيقة والجميلة فارعة الطول ممشوقة القد وعينان سوداوان واسعتان ضامرة الخاصرتين، وقرأت ما يجيش من رغبة في اذهاننا، فأسرعت غابت برهة واذ بها تعود وهي تحمل لفافات من خبز الصاج مرحتها بالزبدة الخالصة واللبنة، وابتسامة رهيفة تمور على شفتيها وتقول بلغتها البدويّة النقيه (هاكم يا عجيان يا وِلدي هاذن الللفافات) هجم صديقنا ولقفها من بين يديها وانسحبنا راحعين فرحين وبغبطة عارمة نلتهم تلك اللفافات،  وأخذنا نسترق النظرات فشاهدنا رجلًا بدا لنا بشاربيه الكثين وقد خاطهما الشيب كهلا وشيخًا التف بعباءة سوداء وهو يعتمر كوفية ناصعة البياض توّجها بعقال اسود يجلس كالاسد في عرينه على سجاجيد فاخرة فرشها على ارض البيت الترابية واباريق السادة الصفراء تفوح منها رائحة شذية يعبق بها الجو، ومن حوله جمع من الرحال يصيخون السمع لحديثه بلهجته البدوية الخالصة.
استوقفنا حديثه الشجي باللهجة البدوية فتهادى لسمعنا وهو يروي حكايته على سامعيه استجلينا حقيقة امره وبعضًا من تاريخ حياته وعرفنا انه الشيخ احمد حسين الدلكي، احد جنود الشيخ عز الدين القسام قائد ثورة فلسطين سنة 1936 حظي لعطائه وحسن ادائه وصفوة نشاطه برتبة قائد فصيل في الثورة معه زميلان في النضال وبنفس الرتبة المجاهد قائد الفصيل علي عثمان من قرية دير حنا وقائد الفصيل صالح المنصور من قرية عرابة وجد الشيخ الدلكي نفسه بعد اخفاق الثورة يمارس حياته الرتيبة البدوية الطبيعية وركضا وراء المرعى والكلأ والماء جاء من منطقة طبريا وحطّ رحاله هناك ونصب بيت الشعر في وادي سلامة لما فيها من وفرة المراعى والماء.
 وفي سنة 1958 وفي غمرة الهجمة السلطوية على الجماهير العربية التي شنتها السلطات في اعقاب الانتفاضة التي اشعلتها وفجرتها الجماهيرالعربية بقيادة الحزب الشيوعي يوم أوّل ايار من تلك السنة، رافضة املاءات السلطة جعل الاحتفال بيوم الاستقلال العاشر بديلا لاول ايار عيد العمال العالمي.. فهبت الجماهير في الناصرة وام الفحم والمثلث وفي عكا وحيفا ويافا والشاغور رافضة تلك الاملاءات السلطوية فاعتقلت السلطات معظم قادة الحزب الشيوعي ومئات الشيوعيين والوطنيين من القرى والمدن العربية، لم يسلم الشيخ الدلكي من اذرع السلطة وجبروتها وتعسفها في تلك الحملة الرهيبة، وعندما باءت جميع محاولات السلطة الترهيبية والترغيبية لثنيه عن طريقه الوطني وتسخيره ليكون من بين (العرب ا الجيدين) وظل شامخًا كالطود يضاهي جبل حزون الشاهق الذي يشرف على وادي سلامة .
وفي صبيحة أحد ايام حزيران من تلك السنة واستمرار الحملة وملاحقات الشرطة من يوم الاول من ايار، ومع سقسقة العصافير وتغريد اليمام وثغاء الغنم ويعار الماعز وخوار البقر في الحظيرة التي تناغمت مع ضربات المهباش وايقاعاته العذبة الشجية، توقفت سيارة عسكرية امام بيت الشعر وهبط منها ثلة من الشرطة مدججة بالسلاح والهراوات يعتمرون الخوذ النحاسية الواقية يحملون امرًا من الحاكم العسكري بنفيه من بيته المنتصب والمشرع في وادي سلامة الى مكان ناءٍ.. حمّلوه معصوب العينين مصفد اليدين مغلول الرجلين الى تلة وعرية غنية بتواجد الذئاب والضباع والثعالب والكلاب السائبة في (القلعة) غرب قرية دير حنا وبالضبط تحت الخروبة، يقضيها وحيدًا هناك وتحت مراقبة الشرطة بتهمة واهية خاوية بايوائه المتسللين القادمين من لبنان والاردن، تأججت في داخله مرارة واشتعل الحقد في احشائه والغضب في ثناياه فأبدى صمودًا صارخًا ومن ناظريه شع شرر الحقد والتحدي ستة اشهر قضاها في منفاه وحيدا بعيدا عن بيته واولاده واحفاده ومواشيه، زادُه الصمود وما تسرّب اليه ليلًا النزر اليسير من الماء والخبز والزبدة والجبنة. ليعود الى عائلته حرًّا طليقًا وليُطلق الناس على الخروبة اسم خروبة الدلكي.
(عرابة)