طابع الصراع الذي يخوضه بصمود بطولي واسطوري الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة، في مواجهة حرب الابادة والمجازر والتدمير الاسرائيلية، يعكس حقيقة انه بعد نكبة الثمانية والاربعين واجه الشعب الفلسطيني في مسيرة نضاله الوطني التحرري مأساتين كبيرتين، كان لهما الأثر السلبي الكارثي من حيث مدلولاهما السياسي الكفاحي. مأساة فقدان العمق ومأساة فقدان السند. ففي العام الف وتسعمئة وتسعة وسبعين كانت الردة الخيانية الساداتية، بتوقيع اتفاقيات الصلح المنفردة مع اسرائيل، التي اخرجت مصر اكبر دولة عربية من حلبة الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني العربي وافقدت الشعب الفلسطيني وحركات التحرر والتقدم عمقا استراتيجيا طالما استندت اليه في نضالها العادل، خاصة في عهد نظام الرئيس خالد الذكر جمال عبد الناصر. كما ادت اتفاقيات كامب ديفيد الاستسلامية الى ارتماء النظام المصري في اطار خدمة استراتيجية العدوان الامريكية – الاسرائيلية (المشاركة في الحرب العدوانية الامريكية الاولى على العراق، المشاركة في قوات التدخل السريع الامريكية، اقامة قواعد عسكرية في راس بناس وسيناء وغيرها). والمأساة الثانية كانت بانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي وانظمة النمط السوفييتي في اوروبا الشرقية، مما افقد الشعب الفلسطيني وحركات التحرر في كل مكان سندا اساسيا داعما لقضاياها العادلة سياسيا وماديا واقتصاديا وحتى عسكريا. انهيار الاتحاد السوفييتي اوقع العالم ضحية لبلطجة القطب الواحد الامريكي العدواني ولهيمنة عولمة ارهاب الدولة الامريكية المنظم التي انتهجتها ادارة بوش واليمين المحافظ وطالت انيابها الاسرائيلية المفترسة شعبنا الفلسطيني.
ما نود تأكيده في هذا السياق ان نظام الرئيس حسني مبارك يواصل عمليا النهج السياسي الساداتي المتواطئ مع استراتيجية العدوان الامريكية – الاسرائيلية المعادية في نهاية المطاف، للمصالح الوطنية الفلسطينية بالتحرر والاستقلال الوطني وللمصالح الوطنية الحقيقية للشعب المصري الشقيق.
لم نستغرب ابدا لجوء نظام مبارك الى الموقف المتخاذل والمتواطئ مع مجرمي حرب الابادة في غزة. فبالاضافة الى اغلاق معبر رفح، المتنفس الوحيد لشعب محاصر في معسكر اعتقال، بين حين وآخر، وبالرغم من مرور واحد وعشرين يوما على حرب المذابح الاسرائيلية وجرائم الحرب في غزة واستشهاد اكثر من الف فلسطيني وجرح حوالي ستة آلاف فلسطيني اكثر من نصفهم من النساء والاطفال، وبالرغم من المحرقة التي دمرت البيوت والمؤسسات والجامعات والمدارس ودور العبادة والمزارع وشبكات الكهرباء والماء، بالرغم من الوضع الكارثي في قطاع غزة الذي يهدد بكارثة انسانية تواجه مليونا ونصف المليون فلسطيني في غيتو غزة، فان نظام مبارك يعرقل تقديم عون جدي لشعب شقيق ويتواطأ مع برامج اعدائه. وهذا ينعكس فيما يلي:
• اولا العمل على إفشال عقد مؤتمر قمة عربية:
لقد اتفق وزراء الخارجية العرب في اجتماع القاهرة قبل سفرهم للمشاركة في اجتماع مجلس الامن الدولي بهدف "الضغط" لوقف الحرب العدوانية، اتفقوا انه في حالة الفشل في عدم وقف الحرب العدوانية، يعقد مؤتمر قمة لاتخاذ موقف واجراءات عربية للجم المعتدي. وكما هو معروف فقد رفضت اسرائيل قرار مجلس الامن، وبضغط من بوش امتنعت كوندوليزا رايس عن التصويت كمؤشر يشعل الضوء الاخضر لاسرائيل لمواصلة حربها التدميرية الدموية على امل كسر صمود المقاومة والشعب الفلسطيني واملاء شروط الاستسلام الاسرائيلية. وتقدمت قطر بطلب واقتراح عقد مؤتمر قمة عربي في الدوحة يوم الجمعة (اليوم). ونظام مبارك الذي رفض في الايام الاولى من الحرب عقد مؤتمر قمة بحجة انه يجب الاعداد بشكل جدي للمؤتمر وافشل عمليا عقده وجند الى جانبه بعض الانظمة العربية "المعتدلة" وطرح كبديل للقمة مبادرته مع الرئيس الفرنسي ساركوزي. وهذه المرة انطلق مبارك بقوة الدفع الامريكية – الاسرائيلية ضد عقد مؤتمر القمة والاستعاضة عنه باجتماع تشاوري يعقد في الكويت عشية المؤتمر الاقتصادي، اجتماع تشاوري مخصيّ القرارات والاجراءات ولا يلزم احدا بشيء. لقد باشر مبارك لتجنيد النظام السعودي والنظام التونسي ضد عقد المؤتمر فيما ايدت سوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية عقده.
ورفض مبارك للقمة كان متوقعا لسببين رئيسيين، الاول، ان الشعب المصري كباقي الشعوب العربية يشتعل غضبا على تخاذل حكامه، وملايين الجماهير في البلدان العربية تشارك في مظاهرات التضامن مع الشعب الفلسطيني وتدين العدوان وجرائمه وتطالب الانظمة بتحريك اقفيتها ورفع صوتها ضد المجرمين، والانظمة المدجنة امريكيا تدرك جيدا احتمالات تحرك مكابس الضغط الجماهيري الذي لن يكتفي بمؤتمر بيانات ادانة دون اتخاذ اجراءات عينية، ولتغضب جماهيرهم على ان لا يغضب السيد الامريكي – الاسرائيلي. والثاني، ان عقد مؤتمر قمة قد يفشل ويدفن مبادرة مبارك التي تتواطأ عمليا مع الاملاءات الاسرائيلية الامريكية المعادية للمصالح الوطنية الفلسطينية.
• ثانيا المبادرة المصرية – لمصلحة من؟
لعل وزيرة خارجية حكومة الحرب الاسرائيلية تسيبي ليفني عبرت بجملة واحدة حول المدلول السياسي لمبادرة مبارك والمشاورات الجارية حولها مع اطراف الصراع، فقد صرحت "ان ما يجري في القاهرة ضد حماس وليس معها" بمعنى انه يخدم مصلحة وموقف المعتدي الاسرائيلي. مجرم الحرب الرئيس جورج دبليو بوش صرح "انه لا يوجد افضل من مصر لمنع تهريب الاسلحة الى قطاع غزة ووقف اطلاق الصواريخ على اسرائيل"!! حتى كتابة هذه السطور فقد رفضت عدة فصائل فلسطينية المبادرة المصرية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجهاد الاسلامي وجميع الفصائل المتواجدة في سوريا ولبنان، كما رفضتها حماس بشكل دبلوماسي اذ طالبت بتعديلات جوهرية عليها تنسفها عمليا، رفضتها لأنها ترى في مدلولها السياسي طلب الاستسلام الفلسطيني للاملاءات الاسرائيلية وخطرا يهدد مصير الاستقلال الفلسطيني واقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية.
والمبادرة التي يطلق عليها مبادرة لوقف الحرب تتضمن تفاصيل تتواطأ مع المعتدي وتقدم له مكاسب على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية. فمن الشروط التي تتضمنها المبادرة الطلب من حماس والزامها وباقي الفصائل الفلسطينية بوقف اطلاق الصواريخ على الجنوب الاسرائيلي، دون ان يتزامن ذلك مع سحب القوات الاسرائيلية من القطاع وان يجري فيما بعد التفاوض حول سحب القوات الغازية. كما يؤجل لوقت غير محدد موضوع ازالة الحصار وفتح المعابر وفرض مراقبة دولية واسرائيلية وفلسطينية على المعابر، وضع قوات دولية على الشريط الحدودي فيلادلفي وبين اسرائيل وغزة لمنع تهريب الاسلحة الى القطاع ولمراقبة منع اطلاق الصواريخ على اسرائيل. كما يتضمن بند تهدئة، هدنة بين اسرائيل وغزة لمدة عشر الى خمس عشرة سنة!! المدلول السياسي لهذه البنود هو اعتبار قطاع غزة كدولة وليس منطقة محتلة مثل الضفة الغربية، دولة توضع تحت الوصاية والاحتلال ويجري تجريد الشعب الفلسطيني من حقه في مقاومة الاحتلال ويجري ترسيخ الانقسام بين الضفة والقطاع ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة على كامل التراب المحتل منذ السبعة والستين.
منظمات مدنية دولية عديدة ومنظمات حقوق الانسان ومحامون يطالبون بمحاكمة قادة اسرائيل السياسيين والعسكريين كمجرمي حرب، كقتلة المدنيين من اطفال ونساء وتهديم البيوت وتشريد السكان، ونظام مبارك يبادر لتقديم الجوائز للمجرمين من وحوش البشر. المفاوض الفلسطيني من حماس مع نظام مبارك يضع شروطا لتغيير وتعديل المبادرة، اهمها ان يتزامن وقف النار من الطرفين مع انسحاب القوات الاسرائيلية من جميع اراضي القطاع، معارضة دخول قوات دولية الى القطاع ورفع الحصار وفتح المعابر بما فيها معبر رفح.
المعتدي الاسرائيلي يصعّد من جرائمه ومن تكثيف عملياته العدوانية على امل كسر الصمود الفلسطيني وفرض املاءات المبادرة المصرية – الامريكية – الاسرائيلية قبل ان يتسلم الرئيس باراك اوباما وادارته مقاليد الحكم رسميا، الاسبوع القادم في العشرين من شهر كانون الثاني الجاري. للمعتدين والمتواطئين حساباتهم الاجرامية وللشعب الفلسطيني حساباته العصيّة على الخنوع والاستسلام، وصاحب الحق لا يهزم، ولعل دم الشهداء والجرحى والكوارث الانسانية التي واجهها شعبنا في القطاع تدفع باتجاه تجاوز الانقسام والفرقة واعادة اللحمة الى وحدة الصف الكفاحية الفلسطينية المتمسكة بثوابت الحقوق الوطنية. وتحياتنا للشعب المصري والشعوب العربية التي استيقظت من نومها وانطلقت تعبّر عن موقفها الوطني الاصيل، ونحن ندرك جيدا انه شتان ما بين موقف الانظمة المتواطئة وبين انتفاضة شعوبها ضد التخاذل.