كلنا سمعنا من خلال أجهزة الإعلام وشاهدنا الحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل على شعبنا الفلسطيني في غزة في الأيام الماضية، رأينا مناظر تقشعر لها الأبدان، جثثا مبعثرة هنا وهناك، مليون ونصف مليون إنسان محاصرون في غيتو مغلق من جميع الجهات، وآلة الحرب الإسرائيلية تحصدهم. إن مثل هذه الأعمال يجب أن لا تبدو غريبة فهي تأتي من قبل الحكومة الإسرائيلية وخاصة ايهود براك.
السبب المعلن ، كما تدعي إسرائيل، هو الصواريخ التي تطلقها المقاومة من غزة على جنوب إسرائيل فجيش الدفاع -الذي لا يقهر- كما يقولون وبراك وزير دفاعه الذي خرج من لبنان يجرجر أذيال الخيبة، لا يمكن أن يقبل بذلك، أي أن يتعرض ما يقارب السبعمئة ألف نسمة في جنوب إسرائيل للخطر. إذا يجب القضاء على هذه الصواريخ. إن إسكات هذه الصواريخ وضمان امن جنوب إسرائيل كان يمكن الوصول إليه بغير طريق الحرب فقد كان هناك اتفاق تهدئة بين إسرائيل والمقاومة، وقد التزمت المقاومة بها ولم تطلق أي صاروخ بالرغم من انتهاكات إسرائيل. انتهت فترة التهدئة وبدأت مساعِ لتجديدها. والسؤال لماذا لم تتمهل إسرائيل، هذه المرة ولجأت إلى القوة؟ هذا يقودنا إلى الإدراك بأنه لا بد من وجود سبب آخر للقيام بهذه الحرب .
نحن نعرف ان الشعب الفلسطيني منقسم على نفسه، بين دولة للسلطة الفلسطينية في الضفة والتي تتبنّى تحقيق مشروع الوصول إلى الدولة الفلسطينية أمريكيا، أي عن طريق المفاوضات والذي كان كله لفا ودورانا ووعودا في الهواء ولم يتحقق منها شيء، وبين حماس في غزة التي هي أكبر الفصائل التي تتبنى المقاومة طريقا للوصول للحل. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذا الانقسام إنما هو الذي قصم ظهر القضية الفلسطينية. فتح لا تريد أن تسلم لحماس، وحماس لم تصدّق أنها تتسلم الحكم، نعم إن وصولها للحكم كان مشروعا، لكنّ سعيها فيما بعد للانفراد بالسلطة غير مقبول وإني أناشد أعضاء الحركتين، فتح وحماس، لإعادة لم الشمل.
شبعنا خطبا ومؤتمرات صحفية من الداخل ومن الخارج. إن إنهاء القضية الفلسطينية والقضاء عليها هو الهدف غير المعلن لهذه الحرب فالسلطة الفلسطينية، وعلى ما يبدو، متمشية مع طلبات وشروط إسرائيل وأمريكا للحل وبحسب رأيي، فليس من المستبعد أن يكون قد تم هناك شبه أو حتى اتفاق بين المتفاوضين، يستجيب للشروط الإسرائيلية مثل إبقاء الكنتونات في الضفة الغربية، بدليل عدم إزالة أي حاجز حتى الآن، بالرغم من كل هذه المدة الطويلة من المفاوضات، وإسرائيل ماضية في الاستيطان وتهويد القدس، كما أنه قد يكون في هذا الاتفاق طمس لقسم أو بعض الثوابت الفلسطينية، أي تفاهم لا يرضي الشعب الفلسطيني، وستعارضه فصائل المقاومة وخاصة حماس، والذي يدعو إلى الشك بأن شيئا من هذا القبيل ربما يكون قد حصل ومحفوظا في الدرج، هو اهتمام الإدارة الأمريكية، وفي آخر عهد بوش، بهذه المفاوضات وأن تحرص على استمرارها، إلى حد أنها طلبت عقد جلسة لمجلس الأمن لهذه الغاية واستنفرت الرباعية، فهل يكون بوش وفي آخر أيامه ينام ويحلم في القضية فقام ليحلها؟ وفي هذه الحالة فإن السيد عباس لا يقدر حتى على إعلان ذلك فكيف ينفذ الأمر؟
إذا يجب اجتثاث المقاومة التي هي في الدرجة الأولى "حماس"، إذا صدر الحكم على حماس بان تُصفى. ليس هذا فحسب بل صُنفت على أنها إرهاب . و صنفته السيدة ليفني بالإرهاب لهدفين : الأول فهي في شنها هذه الحرب تخرج إلى العالم بأجهزتها الإعلامية على أنها تحارب الإرهاب وعندما تقول "إرهاب" فان ذلك يشرعن هذه الحرب وتكون قد حيدت القضية الفلسطينية وأخرجتها من دائرة التفكير العالمي، فالحرب إنما هي على الإرهاب. وثانيًا فإن الإرهاب هو خطر على عروشكم انتم يا أصدقاءنا في الأنظمة العربية، مثل ما هو خطر علينا، كلانا مستهدف فلم لا نتحالف لمواجهة هذا الخطر؟ ليس على إيران فقط بل على هذه المقاومة التي هي إرهاب أيضا؟ على الأقل أعطونا دعمكم ودعوا انجاز المهمة علينا ويكفينا منكم أن تتفقوا على أن لا تتفقوا في مؤتمراتكم.. وهذا ما كان وحصلوا على الدعم .
إن أمريكا بوش وإسرائيل، لا تريدان أية مقاومة، تريدان الشرق الأوسط ملكا لهما، بلا منازع. لا تريدان أن يرفع أحد رأسه أو أن ينطق بكلمة لا.. وإلا فهو إرهابي، ولنفس هذا السبب شنت الحرب على حزب الله في لبنان. وما على رؤسائنا إلا ترديد كلمة آمين، لكل ما تريده إسرائيل. وفي هذا العدوان الإسرائيلي على غزة وللأسف، وعلى ما يبدو، فقد تواطأ بعض رؤسائنا مع إسرائيل، بهدف القضاء على المقاومة وهم مجبرون أن يكونوا إلى جانب إسرائيل فهم حلفاء لها، فهذا ما رسمته رايس لهم في زياراتها السابقة للمنطقة، وكلنا نذكر اجتماعاتها بمديري مخابرات هذه الدول وطلبها منهم التعاون لمحاربة الإرهاب. وفي نظر بوش ورايس إن كل من تقول عنه إسرائيل إنه إرهاب، فهو كذلك، فالمقاومة في غزة وكذلك حزب الله إرهاب، ويجب أن يتعاون المتحالفون للقضاء عليها، وكيف وإن معلمتهم، رايس، أمرت وأقنعتهم إن في تعاونهم فائدة لهم قبل أن تكون لإسرائيل فإنهم بذلك يحافظون على عروشهم.
إني أحب مصر لأنها بلاد أنبتت العظماء، من امتنا، من أدباء وعلماء وشعراء وقادة وليت لجمال اليوم عيونا لترى ما يحدث.. كنت أتمنى أن يكون ما تردد من أخبار عن التعاون العربي مع إسرائيل غير صحيح، و كنت غير مصدق لما يقال، حتى ظهر علنا وعلى شاشة التلفاز سيادة الرئيس مبارك ليلقي باللائمة على حماس وليقول حتى أكثر مما تريده إسرائيل، يقول بأن من حق إسرائيل مراقبة معبر رفح المصري الفلسطيني. معبر رفح سيادة مصرية فلسطينية. إسرائيل تركت غزة ولم تعد محتلة وسيادته ما زال مصرا على أنها لا تزال أرضا محتلة.. يا سيادة الرئيس، نحن نعلم إنك بحاجة إلى رضى إسرائيل وانك مجبر على تحدي قرار المحكمة العليا في بلدكم وإيصال الغاز لها حتى لا تقطع عنك المساعدات الأمريكية، ونحن نفهم أن أية علاقة بين أية دولة وأمريكا لا تتم إلا بموافقة إسرائيل ولكن ليس إلى هذا الحد، إن كل هذا لن يحميك من تهديد ليبرمان ومطالبته بضرب أسوان والسد وهو ما زال، حتى الآن، عند موقفه وقد أعلن ذلك مجددا،في لقاء في إحدى محطات التلفزيون الإسرائيلية وعندما سئل، أثناء الحرب، هل ما زال عند موقفه قال نعم . ومع كل الذي تقدمه لإسرائيل يا سيادة الرئيس فان ذلك لم يطمئن ليفني فتخطتك وذهبت إلى الولايات المتحدة للحصول على ضمانات لحمايتها وهذا تفسيره، إنها وللأسف لا تثق بكم..
يا سادة.. يا رؤساء، اليوم تُضرب المقاومة الفلسطينية، أما غدا فستُضربون أنتم، وما استخدام كل هذه القوة والأسلحة الفتاكة إلا بمثابة لفت نظر أو توجيه رسالة، مفادها أن كل من يرفع رأسه منكم سيضرب. إسرائيل تريد أن تكون هي الآمر الناهي في هذه المنطقة، تقيل عروشا وتنصب أخرى، والآن، إنما تُكسر الحزمة عودا عودا، نتيجة لهذا الصمت والسكوت الغريب من الحكام العرب وعدم الوقوف وقفة رجل واحد للتصدي لهذه الهجمة الوحشية اللا إنسانية. إن الشعب الفلسطيني لا يطلب أن تحاربوا، لكن لديكم الإمكانيات، قولوا لا لأمريكا، لا نريد أن يكون بيننا تعاون أو مصالح مشتركة، اتركونا نعيش في بلادنا، لا نريد دمقراطيتكم، وأنتم في بلادكم، يا سادة يا كرام فعّلوا إمكانيتكم الاقتصادية فقط، لا أن تذهبوا إلى نيويورك لاستجداء الشفقة، فعلى ماذا حصلتم، لا شيء، فقط الخزي والعار، رايس ترفض مقابلة الوفد بكامله، لا تريد أن يشارك في المقابلة لا عمرو موسى ولا ممثل دولة قطر، فهي تنتقي من تريد. والخزي الأكبر هو أنكم لم تنتصروا لكرامتكم، وبدل من أن ترفضوا المقابلة وتعودوا أدراجكم، احتجاجا، وافقتم واجتمعتم معها، فبالله عليكم هل نتج شيء عن ذلك؟ كلا ! لم توقفوا الحرب، فإسرائيل لا تريد إذا أمريكا تريد أن تشبع إسرائيل نهمها بقتل المزيد من هذا الشعب، والحالة هذه كان الأحرى بكم العودة حتى ولو ادى الأمر إلى سقوط ألف شهيد آخر. وهنا لابد لي من الإشارة إلى أن دور عرب الداخل أيضا آت، فكلنا سمعنا ما صرحت به الوزيرة ليفني، إنها تريد دولة يهودية صرفة. إن الذي يحسب ان إسرائيل نسيت أو تنازلت حتى عن حلم إسرائيل الكبرى فهو واهم، إنما كل بميقات. ثم، وبعد هذا كله ماذا نريد يا سيادة الرئيس من شعب محاصر، يموت كل يوم، إذا فالأفضل لهذا الشعب أن يموت مرة واحدة، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا.
أما توقيت هذه الحرب فله أكثر من تفسير، فبالنسبة للقادة الإسرائيليين الثلاثة، أولمرت وليفني وبراك، فهي الانتخابات، التي ستجري في شباط، فكل من ليفني وبراك يريد النجاح في الانتخابات، ليفني يهمها أن تكون رئيسة الحكومة المقبلة وبراك كذلك، وقد رأى براك تدني وضع حزبه لذلك يريد أن يصبح بطلاً قوميا، من خلال هذه الحرب، يريد أن يظهر وكأنه المخلص، فيقوم بهذه الهالة من الجيش والدبابات والطائرات ولكي يخيف شعبه أكثر، يستدعي الاحتياط. لقد أثبتت الاستطلاعات بعد أن بدأت الحرب انه قد تضاعف عدد مقاعد حزب العمل. وبالنسبة لأولمرت، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة في الحكم، فهو يريد ان يستعيد شيئا من هيبته وكرامته الذي مسخت في حربه ضد حزب الله، ولعله يخفف بعضا من العقاب نتيجة الفساد والتجاوزات التي يلاحقه عليها القضاء، وقد قال بعض المحللين السياسيين إن هذه الحرب لولا ضرورة استغلالها كدعاية انتخابية لكانت يمكن أن تكون بعد الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة .
والآن دعونا نحاول استخلاص النتائج ونتساءل حول ما ستحققه هذه الحرب لإسرائيل، هل يا ترى قضت او ستقضي إسرائيل على حماس؟ اثنان وعشرون يوما من القصف، آلاف الشهداء والجرحى، ولا نسمع التذمر من احد، بل "الله أعطى والله أخذ" و"الله اكبر والحمد لله"، ولم يركع الشعب الغزي ، ولم نر الأعلام البيضاء ترتفع. إذا والحالة هذه فهل ترون أناسا أكثر غباء من حكام إسرائيل؟ إن القوة قد تؤمّن لهم السلام والأمن إلى حين ولكن ليس كشعب يريد ان يعيش بين شعوب هذه المنطقة في هذا البحر من العرب والمسلمين، وعلى الأمد البعيد بل تبعده وتزيد الحقد في الصدور. في غزة مليون ونصف مليون إنسان فحتى لو قضت إسرائيل عليهم جميعا لن ترتاح وها هي تعلن وقف القتال من جانب واحد. أنا لا أقول ان المقاومة هزمتها لكن الذي أقوله ان إسرائيل، وبهذا الأسلوب لم تغير أي شيء. ولذا يتوجب على إسرائيل نبذ أسلوب القوة والعمل على حل هذه القضية نهائيا بشكل ترضى عنه جميع الاطراف. وهنا لابد لنا ان نتساءل لو ان المفاوضات مع عباس رشحت عن شيء ما، وذاق الفلسطينيون بعضا من الحلاوة والطراوة، لو فتحت امامهم الابواب الموصدة بالف حاجز وحاجز، لا ان يموت المريض قبل ان يصل الى المستشفى وأن تلد الحبلى على الحاجز، والكل يذهب الى عمله.. فهل كانت ستصل الامور الى ماهي عليه اليوم؟ تطلق اسرائيل سراح بعض المعتقلين بعد جهد جاهد من المحادثات والمفاوضات فهذا يداه ملطخة بالدماء وهذا لا، تطلق سراح المئتين او الثلاثمئة وفي خلال اسبوع تعتقل ضعفهم او اكثر.. لو تمتع سكان الضفة بالنعيم كنتيجة لمفاوضات محمود عباس كنا جميعا نقوم لنلوم المقاومة في غزة على موقفها .
شيء أخير يجب أن نلتفت اليه قد يترتب كنتيجة لهذه الحرب، وهو أن الويلات وهول الدمار والمصائب التي حلت باهل غزة، ومع كل صبرهم، قادر على أن يفت أعتى العزائم ويؤدي الى فتور الهمم وبالحلم ان يصبح سرابا ميؤوسا منه سواء في داخل الوطن او في الشتات وهذا من جملة ما هدفت اليه اسرائيل من وراء حرب الابادة، وها هم قادة فتح وحماس يشاركون في تحقيق ذلك بافتعال الخلاف بينهما، سعيا وراء الكراسي. ماذا يفيد الكلام والمهاترات والمزايدات من على المنابر ومن الابراج العاجية من دمشق ورام الله وهنا وهناك ؟ احيانا يخيل الي ان شعبنا الفلسطيني ما زال يعيش في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي، اوائل الثورة الفلسطينية، الكل يريد ان يكون فصيلا او قائدا لمجموعة.. لنصل اولا الى قيام الدولة الفلسطينية وعندها فلينتخب الشعب من ينتخب ، أقول قولي هذا من دواعي الحزن والاسى الذي يعتصر قلبي على منظر تلك الجثث لرجال الامن التي كانت متناثرة هنا وهناك كالخراف وقد ذبحت، او عن تلك المرأة التي انتظرت ابنا لها طيلة واحد وعشرين سنة الى ان رزقها الله به حتى تأتي آلة الحرب الاسرائيلية فيموت على صدرها، ام على أولئك الاطفال يذبحون ولا ذنب لهم، ام على ذلك الدمار والتشريد.
كلي أمل أن لا أكون قد تجنيت وليعد كل أتباع فتح وأتباع حماس حزمة واحدة، لا أن يتكسروا أحادا.